تناقلت شبكة الإنترنت في الأيام القليلة الماضية أنباء إعتراض مجموعة من النساء و الفتيات و الرجال على تصريحات الأنبا بيشوي مطران دمياط بأن المسيحيات يجب عليهن أن يقتدين بالمسلمات حشمة في اللباس، و قامت هذه المجموعة بقيادة الدكتورة ماريز تادرس زميلة معهد دراسات التنمية بجامعة سوسكس بالمملكة المتحدة بتنظيم وقفة احتجاجية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية مطالبين باعتذار الأنبا بيشوي عما صدر منه من خطأ في حق القبطيات و رافضين--على حد قولهم--دخول الفكر الوهابي للكنيسة القبطية. كما صرح بعض النشطاء الأقباط بتضامنهم مع المتظاهرين و انتقدوا تصريحات الأنبا بيشوي مؤكدين على عفة المرأة القبطية و رافضين مثل هذه التصريحات التي تهدف للمكسب الشخصية أو السياسية على حساب القبطيات. و جدير بالذكر أن الأنبا بيشوي كانت له بعض التصريحات السابقة المستفزة للمسلمين المصريين و التي سببت لغطاً كبيراً في الشارع المصري و الساحة السياسية على حد سواء. و الأنبا بيشوي هو سكرتير المجمع المقدس و من ضمن المرشحين لمنصب البطريرك القادم.
و الحقيقة أن كل هذا لا يعبر إلا عن جهل مطبق و متمكن من عقلية المعترضين و المؤيدين لهم على حد سواء بتقاليد و تعاليم الكنيسة القبطية، و أن السياسة في عقل هؤلاء المتظاهرين طغت على الفهم الديني السليم، أو أن هناك اغراضاً شخصية في نفس هؤلاء دفعتهم إلى مثل هذه التصرفات و التصريحات العنترية الرنانة.
- تصريحات الأنبا بيشوي
- الملبس اللائق ببيت الله
- إعتراض المعترضات
- التمادي و تصيد الأخطاء
- إختيار البطرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
- تدخل الإخوة المسلمين في هذه المسألة
- الخلاصة و الخاتمة
تصريحات الأنبا بيشوي
المسيحيون هم المصريون الأصليون و المسلمون ضيوف
أبدأ بتصريحات الأنبا بيشوي السابقة. صرح الأنبا بيشوي قبلاً أن الأقباط هم أهل مصر الأصليون و أن المسلمين وافدون عليهم و "ضيوف" على حد قوله. و يمكن فهم هذه الجملة بطريقتين مختلفتين؛ أن الأنبا بيشوي كان يقصد أن المسلمين المصريين في القرن الحادي و العشرين لا زالوا ضيوفاً على المسيحيين المصريين، نافياً عنهم انتماءهم لمصر و حقوقهم كمواطنين مصريين، أو أن الأنبا بيشوي كان يقصد أن ينبه الشباب القبطي إلى حقيقة هامة و هي أن أرض مصر هي أرض كل مصري، و بالحري الأقباط، و أنه يجب على الشباب المصري التمسك بأرضه و الدفاع عنها ضد الجهل و الفقر و المرض و النهوض بها مثلهم مثل المسلمين و أكثر، و على حد قول البابا شنودة "مصر ليست وطناً نعيش فيه بل هي وطن يعيش فينا". و أقول "بالحري الأقباط" لأن أقباط مصر هم أقدم من مسلمي مصر، و لا يخفى على عاقل أن الإسلام ورد لمصر بعد المسيحية، و عليه فإن أقباط مصر أقدم فيها من مسلميها، و ليس هذا نفياً لمصرية المسلمين، إذ أن الكثير من المصريين وقت دخول الإسلام مصر تحولوا إلى الإسلام، و هم مصريون خلص مثلهم مثل الأقباط، و لكن بعض المصريين المسلمين قد وفدوا إلى مصر من شبه الجزيرة العربية و غيرها على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان حكم فيها مصر حكام مسلمون، و لم يفد إلى مصر مثل هذا العدد مطلقاً من المسيحيين، اللهم إلا من سورية (و قد أقاموا لفترة بدير السريان العامر بوادي النطرون) لقرب المسافة من مصر و إشتراك سورية مع مصر في المذهب الأرثوذكسي، و من أرمينيا بعد و أثناء المذابح الحميدية ثم الإبادة العرقية للأرمن من قبل الدولة العثمانية في اواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى، و كنائس الأرمن لا يزال بعضها موجوداً في مصر حتى الآن بالرغم من رحيل معظمهم مع قيام دولة أرمينيا الموجودة حالياً شرق تركيا. و عليه فمن الجائز أن نقول أن أقباط مصر "أقدم" في مصر من بعض مسلميها، و إذا كان من الواجب على المسلم المصري أن يزود عن وطنه، فبالأولى القبطي المصري. و لكنني لا بد أن اعترف أن التعبير خان الأنبا بيشوي في تلك الجملة، فصارت تفهم على محملين، و بدا المفهوم المسيء أكثر وضوحاً فيها من المفهوم الطيب. و لكنني لا أظنها تعدو كونها مجرد جملة أسيء فهمها و ليست دعوة للعنصرية ضد المسلمين المصريين.
آيات اضيفت للقرآن في عهد عثمان بن عفان
و المرة الثانية التي إتهم فيها الأنبا بيشوي بإصداره تصريحات مستفزة و مسيئة للإسلام جاءت عندما طرح الأنبا بيشوي فكرة أن تكون بعض آيات القرآن قد اضيفت إليه في عهد عثمان بن عفان الخليفة الثالث الذي قام بجمع القرآن في مصحف عثمان بن عفان الذي صار مرجعاً للمصحف في الإسلام. و لا أدري ما المسيء في مثل هذه التصريحات...!! ألا يخرج علينا بين الحين و الحين أحد شيوخ المسلمين مصرحاً علناً في وسائل الإعلام و غيرها أن العقيدة المسيحية فاسدة و أن الكتاب المقدس محرف، و لا يكون دليله على هذه الادعاءات إلا ما جاء في القرآن تلميحاً و ليس تصريحاً بشيء على وجه التحديد؟ فإن كان المسلمون يقبلون أن يطعنون في كتاب المسيحيين و في عقيدتهم، فلماذا لا يقبلون النقاش فيما يخص عقيدة الإسلام؟ لو كان الأقباط معترفين أن الإسلام دين سماوي جاء ليكمل و يتمم ما جاءت به اليهودية ثم المسيحية لكانوا كلهم تحولوا إلى الإسلام من قرون عدة. انما ما يبقيهم على دينهم و عقيدتهم عدم ايمانهم بالإسلام كدين سماوي، و من لا يدرك ذلك فهو واهم أو ناقص عقل.
إن كنت يا عزيزي المسلم تقبل أن تدعي أن الكتاب المقدس قد حرف من دون دليل واضح، فلماذا يسوؤك بشدة مجرد نقاش فكرة أن هناك آيات اضيفت للقرآن في عهد عثمان بن عفان؟ دحض الفكر لا يكون إلا بالفكر، و الحجة يقابلها الحجة أو البرهان، و لا يقابلها مجرد الإعتراض الغاضب و الصوت العالي. لا أرى سباباً أو إهانة فيما قاله الأنبا بيشوي، و انما أرى رأياً يخالف ما يعتقد فيه المسلم، و حرية الرأي تكفل له أن يقول رأيه كما تقول رأيك يا عزيزي المسلم، و تكفل لك حق الرد بالحجة و البرهان. لم أسمع في تاريخ مصر عن مظاهرة قبطية قامت من أجل أن المسلمين يقولون أن النصارى كفرة و أن كتابهم محرف، فاقبل على نفسك ما تقبل على غيرك. و أعيب على الأنبا بيشوي في ذلك الموقف أيضاً أنه بالغ في تقديره لرقي فكر عموم المسلمين المصريين ممن يخالفونه العقيدة فصرح برأيه على الملأ، و ما كان يجب أن يفعل ذلك إلا لمن يعرف عنه رجاحة العقل و هم للأسف ليسوا كثيرين في مصر، لا في المسلمين و لا في المسيحيين.
الحشمة في الملبس اقتداء بالمسلمات المحجبات
و الموقف الثالث للأنبا بيشوي كان دعوته للقبطيات للتحلي بالحشمة في الملبس كما تفعل المسلمات المحجبات. و لا أرى في ذلك أيضاً أي إهانة لعموم القبطيات و لا محاولة للتقرب من السلطة الإسلامية القائمة حالياً في مصر، و لا محاولة لنيل منصب البطريرك، و لي أسبابي المنطقية بكل تأكيد.
الملبس اللائق ببيت الله
يقول الكتاب المقدس في المزمور:
بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ الأَيَّامِ (مز ٩٣ : ٥)
أفلا نتفق جميعاً أن القداسة مفهوم أشمل و أعم من العفة؟ فإذا كانت القداسة تليق ببيت الله، أفلا يجب أن يكون هناك ملبس معين يليق بهذا المكان المقدس؟ إذا كان أحدنا يستعد للامتحان الشفوي أو لمقابلة شخصية للحصول على وظيفة، أليس يلبس ما يليق بهذه المناسبة؟ هل يليق أن يلبس بنطالاً قصيراً و يكشف عن صدره و يدخل الامتحان أو المقابلة الشخصية و هو يمضغ العلك؟ هل يليق بالمرأة أن تلبس ملابس ضيقة تكشف عن جسدها أكثر مما تستره، أو أن تبالغ في زينتها، أو أن تلبس ما يكشف عما يجب أن يستر من جسدها؟ فإذا كان هذا هو العرف في الحياة العامة التي لا قداسة فيها، فكم بالحري بيت الله الذي تليق به القداسة؟
و هناك في الكتاب آية أخرى في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس تقول:
"وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغُطَّى، فَتَشِينُ رَأْسَهَا" (١ كو ١١ : ٥)
و عليه فإن تغطية الرأس في الكنيسة أثناء الصلاة واجب على المرأة بحسب تعليم الكتاب المقدس، فإذا كانت تغطية الرأس واجبة أثناء الصلاة، فكم بالحري باقي الجسد؟
فهمي الشخصي لكلام الأنبا بيشوي
هل كان الأنبا بيشوي يقصد أن تلبس القبطيات الحجاب أو النقاب؟ لا أظن أنه كان يقصد ذلك مطلقاً، و انما كان يضرب بالمسلمات الملتزمات بالحجاب المحتشم مثلاً في الحشمة في الملبس، و لم يكن يقصد إرتداء ذلك الزي بعينه أو أي زي آخر معين، و لم يكن يقصد أن يفرض على القبطيات ملبساً معيناً، بل كان طلبه من بعضهن الاحتشام في الملبس كما تحتشم المحجبات في ملبسهن، تماماً كما كان قد قال من عام مضى و لم يعلق أحد على الأمر مطلقاً.
أنا على يقين أن الأنبا بيشوي لم يكن يقصد الإنقاص من شأن المرأة، و انما كان يقصد الإعلاء من شأن بيت الله. و أنا أيضاً على يقين أن الأنبا بيشوي لم يكن يفتح الباب للسلفيين أو غيرهم من المتشددين الإسلاميين لفرض زي معين على القبطيات، بل كان يلفت نظر القبطيات بوجه عام إلى قدسية الكنيسة و المناسبات الدينية أو "الموالد" كما يطلق عليها العامة، حيث أن زوار الكنائس و الأديرة في هذه المناسبات تحولت في أذهانهم الزيارة من زيارة روحية الهدف منها التبرك بأجساد القديسين و الشهداء و الاشتراك في الصلاة إلى زيارة ترفيهية أو "فسحة" يخرجون بها من روتين الحياة المعقد، و قد إنعكس ذلك على سلوك البعض في التصرفات و الملبس، و هذا ما أكد عليه الأنبا بيشوي نفسه في خطابه إلى الأنبا باخوميوس الذي كان هذا نصه:
أحب أن أؤكد أن بناتنا من السيدات والآنسات هن قديسات ومحتشمات حسب وصايا بولس الرسول وبطرس الرسول "أن يزين ذواتهن بلباس الحشمة" إلى جوا النقاوة الداخلية والعفة القلبية التى يتحلين بها بالفعل، والمرأة المسيحية تغطى رأسها أثناء الصلاة خاصة فى القداسات الإلهية وعند التناول من الأسرار المقدسة، ويتمثلن بالسيدة العذراء القديسة مريم والشهيدة العفيفة دميانه المحبوبات جدا لهن، وطلبنا ونطلب من الحضور فى احتفالات القديسة دميانه مراعاة ذلك باستمرار، خاصة فى الحضور فى الكنيسة.
نؤكد أيضا على بناتنا من السيدات والآنسات بزينة "الروح الوديع الهادئ العديم الفساد" حسب والوصية الرسولية فى العهد الجديد، وهو ما يجعل المرأة المسيحية فى مصر والبلاد الشقيقة وفى بلاد المهجر قدوة لكل النساء المسيحيات فى بلاد العالم، كما أن للمرأة فى كنيستنا دورا إيجابيا واضحا فى خدمة الكنيسة والبيت والأسرة والوطن نعتز ونفخر به، ونطلب من الرب أن يقودنا جميعا إلى ما فيه خير كنيستنا وبلادنا وسلام العالم بصلوات مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، وبفضل القيادة الحكيمة لنيافة الأنبا باخوميوس القائم مقام البطريركى
إعتراض المعترضات
إعترضت المعترضات قائلات أن القبطيات محتشمات بالطبع و أن هذا القول من الأنبا بيشوي ليس إلا إستغلالاً للقبطيات للتقرب من التيار الإسلامي المتشدد. و أقول لهم إن كنتن تشعرن انكن محتشمات و أن ليس في ملبسكم ما لا يليق و ليس فيه ما ينطبق عليه قول الأنبا بيشوي، فلماذا الغضب و التظاهر؟ و إن كنتن تشعرن أن ملبسكن هو المقصود، فاعلمن أن نيتكن فاسدة و دفاعكن ما هو إلا عن رغبة منكن في أن تحل لكن الكنيسة أن تلبسن ما لا يليق فيها. يوجد بكل تأكيد في كل دين و في كل ملة من لا يلتزم بتعاليمها، و هؤلاء هن المقصودات بكلام الأنبا بيشوي. إن كنتن لم ترين من تذهب إلى الكنيسة كاشفة عن النصف الأسفل من فخذيها أو عما يجب ستره من صدرها أو مرتدية بنطالاً ضيقاً يجسد معالم نصفها الأسفل، فربما كنتن لا تذهبن للكنيسة بالقدر الكافي. هناك من يفعلن هذا مع شديد الأسف، و توجيههن واجب على الآباء الكهنة و الأساقفة صعوداً إلى البطرك ذاته، تماماً كما يوجه المتدينون من المسلمين المسلمات داعين اياهن إلى ترك التبرج و العري و لبس الحجاب.
و رأيت في صور وقفة الإحتجاج هذه لافتة مكتوب عليها:
إن حشمتنا في العقل و الوقار و الأمانة (١ تي ٣ : ١١) ليست في الملبس
و الحق أن نص الآية المذكور شاهدها هو الآتي:
كَذلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ ذَوَاتِ وَقَارٍ، غَيْرَ ثَالِبَاتٍ، صَاحِيَاتٍ، أَمِينَاتٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ (١ تي ٣ : ١١)
و لم تذكر الآية الحشمة مطلقاً، و انما ذكرت الحشمة في نفس السفر في الإصحاح السابق في آية هذا نصها:
وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى اللهِ بِأَعْمَال صَالِحَةٍ. (١ تي ٢ : ١٠)
و نرى من الآية ما يدل على تعليم بولس الرسول بالحشمة في الملبس و الامتناع عن الزينة الخارجية الملفتة، و لم يقل بولس الرسول أن الحشمة هي العقل و الوقار و الأمانة، بل قال نصاً للنساء أن يتزين "بلباس الحشمة" و أردف قائلاً "مع ورع و تعقل"، فهذا غير ذاك و انما مكمل له، و نهى عن الزينة الخارجية الملفتة من ضفائر و ذهب و لآلئ أو ملابس كثيرة الثمن، و لم يذكر تعري جزء أو أجزاء من الجسم أو تجسيد الجسم بالملابس الضيقة، فإن كان ينهى عن الزينة الخارجية الملفتة، فكم بالحري الملابس الملفتة التي تظهر ما يجب ستره من الجسم.
و هناك نص آخر في الكتاب المقدس في رسالة بطرس الرسول الأولى يؤيد هذا التعليم و يؤكده:
وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ. (١ بط ٣ : ٣ و ٤)
التمادي و تصيد الأخطاء
إن إخراج تصريحات (و أحب أن اسميها في هذه الحالة تحديداً تعاليم) الأنبا بيشوي بخصوص ملبس المرأة القبطية الواجب في الكنيسة من مضمونها الديني و إضفاء مضمون سياسي عليها يتجاوز كل الحدود المعقولة في فهم كلام رجال الدين. شعرت من هذا الموقف بالذات أن المعترضات و المعترضين انما يتصيدون الفرصة لإساءة تفسير أي كلمة صادرة عن الأنبا بيشوي و عمل ضجة إعلامية الهدف منها الهجوم عليه، و كأنهم "بيتلككوا" له. و تمادت المعترضات فطالبن باعتذار الأنبا بيشوي لنساء الأقباط عما بدر منه من إساءة، و العجيب في الأمر أن النساء المعترضات و المتظاهرات لم يزيد عددهن عن العشرين و يتحدثن باسم كل القبطيات، و جعلت وسائل الإعلام منهن لسان حال القبطيات و المدافعات عن المرأة المسيحية في مصر.
و لدهشتي الشديدة فقد صرح المحامي نجيب جبرائيل أن "تصريحات" الأنبا بيشوي غير مقبولة و أنها
"تدعم دعاوى التطرف وتزكي حالة الخوف التي تصاعدت في الفترة الأخيرة لدى الفتيات المسيحيات على خلفية الدعوى التي أطلقتها جماعات متطرفة تدعو إلى ارتداء الحجاب والملابس المحتشمة"و لم أعهد من نجيب جبرائيل قبلاً هذا الفهم الخاطئ لتعليم الكنيسة، و يبدو لي كأنه يتعمد إخراج الكلام من مضمونة الأساسي المقصود و الذي يكاد كل الأقباط الأرثوذكس يجمعون عليه. و في المقابل فقد صرح الأستاذ كمال زاخر الذي إشتهر بمعاداته "للتشدد" (على حد قوله) في الكنيسة القبطية
"إنه لا يجب إخراج تصريحات الأنبا بيشوي عن سياقها وتحميلها معاني سياسية"فعجباً لموقف نجيب جبرائيل، و لا أظنه إلا حاملاً لضغينة أو عداوة للأنبا بيشوي بصفة شخصية، تماماً كما عبر بولس رمزي الذي يصف نفسه بالكاتب و المحلل السياسي على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك
"الراجل ده في قصه طويله بيني وبينه وسكت عنه اليومين دول لان تركيزي في السياسه لقيته اصبح سلفي اكثر من السلفيين انفسهم من اجل الوصول الي الكرسي"
و هذا يدخلنا في موضوع آخر مهم و هو إختيار البطرك.
إختيار البطرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
يتم فتح باب الترشح لمنصب البطرك، و قد يرشح البعض أنفسهم للمنصب و قد يرشح الأقباط شخصاً بعينه يتوسمون فيه المقدرة و القامة الروحية اللازمة لمنصب البطرك، ثم يتم تصفية هذه القائمة إلى خمسة إلى سبعة مرشحين، ثم يتم فتح باب الطعون على الترشيحات و تدرس الطعون من قبل المجمع المقدس، ثم يتم طرح الأسماء في القائمة النهائية على الناخبين، و الناخبون ليسوا كل الشعب القبطي، بل هم كبار الشخصيات في كل كنيسة ممن لهم خبرة إدارية في الكنيسة أو معرفة بشخصيات الكنيسة العامة أو على قدر كبير من القامة الروحية، ثم يتم التصفية إلى أعلى ثلاثة مرشحين من جهة نسبة الحصول على الأصوات، ثم تجرى القرعة الهيكلية، و تتم بأن توضع الأسماء الثلاثة النهائية في ورق مطوي على المذبح، و ترفع الصلاة من أجل إختيار البطرك من قبل الله، ثم يؤتى بطفل عمره لا يزيد عن السنوات الأربع، فيختار من هذه الورقات الثلاث و هو معصوب العينين، و يكون هذا الإختيار هو البطرك الجديد.
إذاً فمنصب البطرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا علاقة له بالسياسة و لا بحاكم البلاد و لا بالتيارات ذات السلطة و الجاه في البلاد، و لا علاقة له بعموم الأقباط في مصر، فالتصويت لا يشمل كل الأقباط، ثم أن القائمة قبل الأخيرة متروك تحديدها للمجمع المقدس أو قائم مقال البطرك، ثم القائمة النهائية يتم الإختيار منها عشوائياً بعد الصلاة، فإن كنا لا نؤمن بقوة الصلاة على الإطلاق في الإختيار، فإن أفضل ما يمكن للمرشح أن يفعله إن سعى سعياً حثيثاً هو أن يجعل فرصته في "الفوز" بمقعد البطرك (إن جاز هذا التعبير) فرصة من ثلاث، و في جميع الأحوال، فإن التقرب لمن هو خارج الكنيسة لا يجدي على الإطلاق. و عليه فإن إدعاء تقرب الأنبا بيشوي للسلفيين أو غيرهم من المتشددين المسلمين للوصول إلى مقعد البطرك هو محض هراء.
ناهيك عن أنه (على حد علمي) من الممنوع على اساقفة أو مطارنة الإيبارشيات (مثل الأنبا بيشوي) الترشح لمنصب البطرك إذ أن الأسقف أو المطران في الكنيسة الأرثوذكسية لا يترك مكانه الذي سيم عليه أسقفاً أو مطراناً، و يقتصر الترشح على الأساقفة العامين (مثل أسقف التعليم كما كان البابا شنودة) أو الرهبان (كما كان البابا كيرلس).
تدخل الإخوة المسلمين في هذه المسألة
لاحظت أن بعض الإخوة المسلمين كان لهم رأي في تلك المسألة، و كان رأيهم مؤيداً للمعترضات القبطيات من منطلق أن التشدد مرفوض في الإسلام و المسيحية و أن المرأة لا بد أن تحترم الاحترام اللائق بها كشريك مساو و أساسي في المجتمع، و الحقيقة أنني أظنني قد أجبت عن هذه النقاط في حديثي، فليس هناك تشدد بل هو إحترام واجب لبيت الله، و ليس هناك عدم إحترام للمرأة على الإطلاق، بل هو توجيه من رجل الدين و إرشاد لما يجب أن يكون عليه الملبس في الكنيسة.
و إتجه البعض إتجاه المتهمين للأنبا بيشوي أنه انما قال ما قاله إرضاء و تملقاً للسلفيين و المتشددين الإسلاميين، و قد بينت في حديثي أيضاً أنه لا يحتاج أياً منهم إن كان طامعاً في منصب البطرك.
و يجب أن يكون الإخوة المسلمون على دراية بأن التدخل في خصوصيات المسيحية له حدود لا يجب تجاوزها. من حق المسلم أن يناقش ما لا يفهمه أو ما يراه غير لائق أو مجحف، و لكن ليس من حقه أن يحاول تأييد حركة تسعى لتغيير ما اجتمعت عليه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من ألفي سنة. من أراد أن ينشق عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فليفعل ذلك، و لنا أمثلة معاصرة على مثل هذا الإنشقاق كالمدعو ماكسيموس الذي نصب نفسه أسقفاً أو بطركاً (لست أدري) لطائفة جديدة من المسيحيين، و لكن من أراد أن يبقى في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فلا بد له أن يلتزم بتعاليمها العريقة، و ليس في ذلك جور على الحقوق الأساسية للمواطنة. و أذكر في هذا الشأن أيضاً محاولة تدخل بعض اخوتنا المسلمين في قضية الطلاق و الزواج الثاني، و هو أمر يخص الكنيسة وحدها. من لا تعجبه تقاليد و قوانين الكنيسة فهو في كامل الحرية أن ينسحب منها من دون قيد أو شرط، و لكن لن تتغير الكنيسة لإرضاء أقليات فيها تنادي بتغيير ثوابت في الكنيسة.
و اضرب مثالاً لتقريب الأمور إلى الأذهان. هل يقبل أعضاء النادي الأهلي مثلاً أن يتدخل أعضاء نادي الزمالك في قوانين و لوائح النادي الأهلي، و هل يعتبر عدم قبول أعضاء النادي الأهلي لمثل هذا التدخل حرماناً لأعضاء نادي الزمالك من حقهم في التعبير، و هل يعتبر أعضاء النادي الأهلي لوائحه قيداً عليهم يحرمهم من حقوقهم في الوطن؟ لا أظن.
الخلاصة و الخاتمة
لم يقصد الأنبا بيشوي بكلامه عن الملبس الواجب في بيت الله أن يفرض على القبطيات ملبساً معيناً بذاته، و انما قصد أن يوضح للناس و يذكرهم بقداسة بيت الله التي بدأت تنحسر عن الأذهان. و لم يقصد أن يتملق أياً من التيارات السياسية على الساحة الحالية، بل و لم يكن يقصد أي معنى سياسي بكلامه على الإطلاق. و لم يكن يسعى لنيل منصب البطرك باكتسابه شعبية زائفة عند التيار الإسلامي المتشدد إذ أن ذلك التيار لا حكم له على إختيار البطرك.
و لا أفهم سبب إعتراض ما لا يزيد عن العشرين فرداً من القبطيات و الأقباط على كلام الأنبا بيشوي و تحميله ما لا يحتمل من معان. و لا أرى في المهاجمين له سوى رغبة شخصية في الهجوم على الأنبا بيشوي لأسباب لا يعلمها إلا هم و الله. و لا أرى مبرراً لتدخل أي من الإخوة المسلمين في هذا الأمر و هم غير العارفين بتقاليد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية و لا بمحتوى و معنى الكتاب المقدس كما يفهمه الأقباط، و لا حتى بالتعليق على الموقف، إذ أنه لا يخصهم و لا يتعلق بهم.
و أرجو من الله أن يحمي مصر من الفتن، و أرجو من المصريين أن يهتموا بما يهم لنهضة البلاد و ليس بسفاسف الأمور، و أرجو من الأنبا بيشوي أن يحترس لكلماته، فيبدو أن هناك من يتربص به لاصطياد الأخطاء، و يبدو أنه لا يجيد إختيار كلماته في بعض الأحيان، و إن كنت أوقن أنه لا يبطن إلا الخير و المحبة.
و ليعلم القارئون انني لم ألتق بالأنبا بيشوي و لا مرة واحدة في حياتي، و لا تربطني به أي صلة من أي نوع، و لا كنت أعيش في إيبارشيته يوماً من الأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق