الاثنين، 24 نوفمبر 2014

ديچا فو

اليوم الأول...

فتح باب بيته ودخل وهو يقول بصوت عالٍ:

– ماما... ماما... الغدا فين أنا هموت م الجوع

ألقى الكتاب الذي كان يحمله على المائدة، واتجه مباشرة إلى الحمام ليغسل وجهه الذي كان يتصبب عرقاً. كان اليوم حاراً ومترباً، وكانت الحافلة التي استقلها من جامعته عائداً إلى المنزل مزدحمة للغاية أكثر من الزحام اليومي المعتاد. فتح صنبور الماء ووضع كفيه متجاورين ليحمل بعض الماء فيهما ليغسل وجهه، وشعر براحة وانتعاش حينما لامس الماء البارد وجهه، فكرر ذلك عدة مرات ثم أغلق الصنبور وتناول منشفته فجفف وجهه وعلقها بعناية خلف باب الحمام، ثم توجه مباشرة إلى المطبخ حيث كانت أمه تنتهي من إعداد الطعام، فطبع قبلة سريعة على خدها الأيسر بعد أن قال:

– إزيك يا ست الكل؟ وحشتيني الشويتين دول. الريحة الحلوة دي ريحة إيه؟ أنا عصافير بطني بتتخانق مش بتصوصو بس.

ضحكت أمه ضحكة قصيرة وقالت:

محشي ورق عنب

– محشي ورق عنب. مش بقى لك حبة بتقول نفسك فيه وأنا ما كنتش فاضية أعمله؟ أنت عارف المحشي دا غلبة. آديني عملت لك المحشي يا عيون ماما.

– تسلمي لي وربنا يخليكي ليا يا أحلى ماما في الدنيا.

– روح بقى غير هدومك على ما أغرف لك طبق محشي.

– فيه سلطة طحينة طيب؟

– مش طحينة بس. عملت لك سلطة زبادي كمان. نفسك في حاجة تاني؟

– حاجة تاني؟! لا دا كدا تمام التمام قوي. ثواني أكون غيرت هدومي. هتاكلي معايا، مش كدا؟

– هآكل معاك لقمة صغيرة علشان أفتح نفسك، بس هأستنى بابا لما ييجي علشان آكل معاه. ما هو مش هنسيبه ياكل لوحده. ولا إيه؟!

– ياكل لوحده؟! ودا اسمه كلام؟! أنا هآكل تاني معاه. دا محشي ورق عنب يا ماما!

دخل غرفته فغير ملابسه سريعاً ثم خرج ليجد أمه قد وضعت له أطباق الطعام على المائدة، فجلس يأكل معها بنهم وجلست أمامه على الناحية الأخرى من المائدة وقد وضعت أمامها طبقاً به القليل من الطعام.

مكيف هواء

– على فكرة، التكييف اتصلح.

– بجد؟! طب إيه؟! يعني بعد الغدا هأدخل أنام في التكييف وكدا؟! يا سلام! ورق عنب وتكييف في يوم واحد؟! دا كتير عليا.

ضحكت أمه بسعادة وقالت له:

– مافيش حاجة تكتر على ابني حبيبي. ربنا يسعدك يابني.

انتهى من تناول طعامه واتجه إلى غرفته وهو يقول مبتسماً:

– أدخل بقى أقيل شوية قبل بابا ما ييجي علشان أقوم آكل الدور التاني معاه.

دخل غرفته وأغلق بابها، ثم شغل جهاز التكييف ووقف أمامه بضع ثوانٍ مستمتعاً بالهواء البارد الخارج منه، ثم ألقى جسده على السرير وغرق في النوم. غاب عن الوعي تماماً، لا يدري كم من الوقت نام.

اليوم الثاني...

وجد نفسه يفتح باب بيته وهو يقول بصوت عالٍ:

– ماما... ماما... الغدا فين أنا هموت م الجوع.

توقف برهة بعدها مندهشاً ليفكر، فهو لا يدري متى استيقظ ولا ماذا حدث بعدها ولا يذكر كيف خرج من البيت وإلى أين ذهب. حاول جاهداً أن يتذكر. لا بد أن هناك أشياءً حدثت منذ أن نام حتى وجد نفسه يفتح باب البيت من الخارج. لكن كل محاولاته للتذكر فشلت تماماً. أحس بالخوف، فمن المؤكد أن الإنسان الطبيعي مكتمل الصحة لا يفقد من ذاكرته كل هذا الوقت. ولكنه وجد نفسه يسير نحو الحمام فيغسل وجهه ثم يجففه ويعلق المنشفة خلف باب الحمام، ثم يتجه إلى المطبخ ليجد أمه تنتهي من إعداد الطعام، وحاول أن يسألها عما حدث بالأمس، آملاً أن تذكره، ولكنه وجد نفسه يطبع قبلة على خدها الأيسر وهو يقول:

– إزيك يا ست الكل؟ وحشتيني الشويتين دول. الريحة الحلوة دي ريحة إيه؟ أنا عصافير بطني بتتخانق مش بتصوصو بس.

وكما حدث بالأمس حدث اليوم! أجابته أمه نفس الإجابة بنفس الكلمات:

– محشي ورق عنب. مش بقى لك حبة بتقول نفسك فيه وأنا ما كنتش فاضية أعمله؟ أنت عارف المحشي دا غلبة. آديني عملت لك المحشي يا عيون ماما.

ديچا ڤو

ووجد نفسه يرد عليها بنفس الكلمات التي قالها بالأمس. ازدادت حيرته وازداد خوفه. تذكر أنه قرأ شيئاً ما في علم النفس عن ظاهرة تسمى ديچا ڤو (Déjà vu phenomenon) يتخيل فيها الإنسان أنه رأى موقفاً ما أو عاشه من قبل، وتذكر أنها ظاهرة طبيعية تحدث نادراً لكل الأشخاص مكتملي الصحة. طمأنه هذا قليلاً، ولكنه استمر يفعل ما فعله بالأمس، أو ما يظنه قد كان فعله، وأحس بنوع من الراحة النسبية لأنه يحب هذا النوع من الطعام، ولأنه يحب أن ينام في غرفة مكيفة الهواء، خصوصاً في مثل هذا اليوم الحار من الصيف. وعلى الرغم من قلقه الشديد وخوفه، نام بعد أن ألقى جسده على السرير بقليل من الوقت.

اليوم الثالث...

وجد نفسه يفتح باب بيته و هو يقول بصوت عالٍ:

– ماما... ماما... الغدا فين أنا هموت م الجوع.

انتابته رعدة جارفة، فهو لا يذكر ماذا حدث بعد أن نام حتى تلك اللحظة، وازداد رعبه بعد أن وجد أن كل ما حدث بالأمس وما قبله يتكرر بدون أدنى تغيير، نفس الحركات ونفس الكلمات، ونفس الطعام ونفس التعبيرات على وجه أمه. أراد أن يقول لها عما يشعر به من رعب ولكنه لم يستطع. أراد أن يبدي على وجهه علامات الخوف أو أي شيء آخر لا يتناسب مع الموقف أو معنى الكلام، لكنه لم يستطع. كل شيء يتكرر بالضبط كما حدث من قبل. هل يمكن أن تكون تلك الظاهرة التي قرأ عنها في علم النفس هي السبب؟ أراد أن يطمئن نفسه، فعزا ما يحدث لتلك الظاهرة، ولكنه لم يزل يشعر بالخوف، لا القلق فقط. وكما حدث من قبل، نام بعد أن ألقى جسده على السرير بوقت قليل.

اليوم الرابع...

وجد نفسه يفتح باب بيته و يردد نفس الكلمات. كاد قلبه أن يتوقف من الرعب. لا يمكن أن يكون هذا الجنون سببه الظاهرة التي قرأ عنها في علم النفس، فهي لا تحدث إلا نادراً للأصحاء، وكذلك لا يمكن أن تكون قد جعلته يتخيل أنه عاش نفس الأحداث بنفس التفاصيل عدة مرات متكررة في أيام متتالية ولا يذكر شيئاً على الإطلاق ما بين نومه و فتحه باب البيت. هناك شيء ما لا يدركه ولا يستطيع أن يستوعبه. هل يمكن أن يكون قد جن؟ وأي نوع من الجنون ذلك الذي يسجنه في هذا التكرار الذي لا يشوبه اختلاف؟ أراد أن يصرخ لينبه أمه أن شيئاً ما قد انتابه، ولكنه لم يستطع، بل وجد نفسه يقول ما قاله من قبل ويتجه نحو الحمام كما فعل من قبل. وعندما جلس على المائدة ليأكل لم يستمتع بطعامه المحبب، على الرغم من أنه كان يأكل بنهم كما فعل من قبل. كان كل تفكيره منحصراً في تلك الدائرة المغلقة التي يدور فيها وكيف يمكن أن يخرج منها.

اليوم الثاني والثلاثون...

بعد مرور أكثر من شهر، لا زال سجيناً لذلك التكرار الذي لا يشوبه أدنى اختلاف. فقد الأمل تماماً في أن يفهم ماذا يحدث أو كيف يخرج من سجنه ذاك. كان كل ما يأمله أن تنكسر هذه الدائرة من تلقاء ذاتها، أو يزول سببها فتزول هي، وتعود له حياته كما كان يحياها. كان يحاول أن يخفف عن نفسه الخوف والقلق، فأقنع نفسه أن هذا التكرار ليس سيئاً بشكل مطلق، فهو يأكل طعامه المحبب، وينام في غرفته على سريره في جو مكيف الهواء. معظم أوقات حياته كانت أسوأ من ذلك بكثير. كان يقول لنفسه أن تلك الدائرة، مهما طال تكرارها، يمكن احتمالها حتى تنكسر، فليس فيها ما يسوؤه.

اليوم الثامن والأربعون بعد المئتين...

فقد الأمل تماماً في أن تنكسر الدائرة. انتظر انكسارها طويلاً، ولم يحدث. كان يظن أنه يمكن أن يتعايش مع ذلك التكرار المريح الرتيب، لكنه يلاقي صعوبة شديدة في التعايش معه. صار طعامه المحبب مكروهاً لديه من كثرة ما أكله. كان يتمنى لو أنه أكل شيئاً آخر، أي شيء. كان يتمنى أن يظل جائعاً كنوع من التغيير. كان يتمنى ألا يغلبه النوم بعد أن يلقي جسده على السرير بقليل. لكن شيئاً من ذاك لم يحدث أبداً. صار يشعر بضيق شديد، على الرغم من أنه لم يأكل إلا طعاماً كان يحبه ولم يفعل شيئاً آخر إلا أن ينام في جو مكيف الهواء كما كان يحب.

اليوم السابع عشر بعد السبعة آلاف وأربعمئة...

بعد أكثر من عشرين سنة، لم يتغير شيء من ملامح أمه. لا يستطيع أن يلمح شبه شيب في شعرها، أو شبه تجعيدة في وجهها. لا زالت أمه تعد له نفس الطعام وتضعه في نفس الأطباق في نفس المكان على نفس المائدة. ولا زال المكيف الذي كان يصيبه عطل ما عدة مرات في الصيف الواحد يعمل بمنتهى الكفاءة كما كان يعمل في اليوم الأول بعد إصلاحه. لم يعد يدري هل هو حي أم ميت. هل يمكن أن يكون هذا نوعاً من عذاب الآخرة؟ أين النار إذاً، وأين الألم؟ لماذا لا يحترق جلده كما قيل له عن جهنم؟ ود لو أن ناراً حرقت جلده فتألم كنوع من التغيير. نعم، كان ألم الحروق بالنسبة له أهون من هذا التكرار الرتيب الذي لا يقدر أن يغيره.

يوماً ما بعد أن توقف عن العد بكثير...

لو أن هذا عذاب الآخرة، فهو شيء لا يحتمله بشر. ليس هو بحي ولا بميت. لا شيء يختلف عن كل الأيام السابقة. لو كان حياً، فربما ينتهي هذا العذاب يوماً ما بموته، ولكنه لا يعلم إن كان حياً أو ميتاً. ولو كان قد مات، فأين النار التي قيل له أن العصاة المتجبرين يعذبون بها؟ ولماذا يأكل طعامه الذي كان يحبه؟ ولماذا ينام في جو مكيف الهواء كما كان يحب؟ لماذا لا يتعذب؟ إن كان حياً فهو يتمنى الموت، وإن كان ميتاً فهو يتمنى أن يتعذب محترقاً عوضاً عن هذه الراحة التي لا تتغير أدنى تغيير. ولكنه لا يعرف إن كان حياً أم ميتاً، لأن الحياة تختلف عن الموت، وهو يعيش في تكرار متطابق تمام التطابق دون شبه اختلاف. ولا يزال في حيرة وفي ضيق ويأس وكآبة، ولكنه يبدو لمن يراه ليوم واحد فقط أنه في منتهى الراحة والسعادة.


انتهت القصة. انتظر قليلاً وفكر قبل أن تكمل القراءة. تخيل لو أنك هذا الشخص. هل كنت ستحب أن تعيش للأبد في هذا التكرار الذي لا يشوبه أدنى اختلاف، علماً بأنك ستأكل ما تحب وتفعل ما تحب؟ أم كنت ستفضل أن تعيش حياة عادية بكل ألمها ومشاكلها وبكل بهجتها وسرورها؟ أن تعيش في اختلاف مستمر أم في راحة متكررة بعيدة كل البعد عن الاختلاف؟ فكر قبل أن تكمل القراءة، وامنح نفسك القليل من الوقت لتتخيل تلك الحياة المريحة المتكررة التي لا تنتهي.


لا أظن أنني أتكلم عن نفسي فقط حين أقول إنني على قناعة تامة أن الاختلاف هو ما يشعرنا بالحياة، بل هو جوهر الحياة ذاتها. تخيل لو أن الكون كله كان يتكون من نوع واحد من العناصر، هل كان من الممكن الحصول على كل هذا الكم من المركبات الكيميائية التي تكون أجساد كل ما هو حي؟ تخيل لو أن كل الكون كواكب، هل كانت ستكون هناك حياة؟ وكيف تكون هناك حياة بدون شموس تمدها بالطاقة اللازمة؟ أو كان كله شموس؟ كيف كانت ستكون هناك حياة وسط لهيب الشموس المستعر؟

تخيل لو أن الكائنات الأرضية كلها من نفس النوع، وليكن البشر مثلاً. ماذا كانوا سيأكلون ويلبسون إن لم تكن هناك حيوانات ونباتات؟ تخيل لو أن كل شيء في الكون له نفس اللون، أي لون. تخيل مثلاً لو أن كل شيء أبيض، أو أخضر. هل كنت ستميز ملامح الآخرين؟ هل كنت سترى أي شيء أبيض بسهولة وخلفيته كلها بيضاء؟ هل كنت ستميز، عندما تنظر للأفق، أن هناك أرضاً وسماءً وأشجاراً ومبانٍ وكل ما يكون صورة الأفق الحالية؟ وبالطبع لن تكون هناك لوحات فنية ولن يكون للرسم وجود على الإطلاق. تخيل لو أن أذنك لا تميز إلا تردداً واحداً من الأصوات، أو أن حنجرتك لا تصدر إلا تردداً واحداً من الأصوات. هل كان من الممكن أن تميز من كلام الآخرين إذا ما كانوا سعداء أم حزانى أم خائفين؟ لن يكون هناك موسيقى ولا غناء بالطبع، وستكون أصوات كل الكائنات التي تصدر أصواتاً واحدة متطابقى التردد، فيكون وقع صوت الإنسان على الأذن له نفس التأثير الذي يحدثه صوت الحمار أو الغراب أو العصافير. تخيل لو أن جسمك كله يتكون من نفس العضو الواحد، لو أنك مثلاً كلك أيادٍ أو عيون أو سيقان. هل كنت ستقدر أن تؤدي نفس الوظائف التي تؤديها الآن؟ هل كنت ستقدر بنفس العضو الواحد مهما تكرر أن تسير وترى وتسمع وتتذوق وتحس وتشم وتكتب وتتكلم وتفكر وكل الوظائف الأخرى التي يؤديها الجسم البشري؟

أطلت الحديث وأكثرت الأمثلة، ولكني أرجو أن أكون قد نجحت في توصيل تلك المعلومة البسيطة الغائبة عن فكر الكثيرين على الرغم من وجودها في كل شيء في الكون، وهي أن الاختلاف نعمة.

الاختلاف والتباين والتضاد هو ما يجعل للكون طعماً ومعنًى، بل هو ما يشكل الكون ذاته، وبدونه لم تكن حياة. أياً كانت معتقداتك وديانتك وطريقة تفكيرك، فلا أظن أنك ستختلف معي على هذه الحقيقة البسيطة. إذا كنت تؤمن أن هناك إلهاً خلق الكون على صورته هذه، ومهما كانت ديانتك، فأنت تؤمن أن من خلق الكون أراده هكذا بكل ما فيه من تباين واختلاف وتضاد، وهو القادر أن يخلق كوناً يخلو من هذه كلها. فإذا كان خالق الكون أراد أن يكون فيه اختلاف، أفلا تقبل أنت أيها المخلوق أن يكون هناك اختلاف؟ وإذا كنت لا تؤمن بوجود إله أو خالق، فلا أظن أنك تقدر أن تنكر حقيقة أن الاختلاف نعمة.


اقتنعت؟ إن لم تقتنع حتى هذه النقطة، فلا أظن أنه من المجدي أن تكمل القراءة. وإن اقتنعت، ففكر هل أنت تقبل الاختلاف بكل أشكاله أم لا تقبله؟ أغلب الظن أنك لا تقبله بكل أشكاله، وأنا عن نفسي لا زلت أذكر نفسي وأتعلم كيف أقبل الاختلاف. هل تقبل من يختلف معك في الدين؟ أو لون البشرة؟ أو مستوى الذكاء أو الجمال؟ أو المستوى المادي والاجتماعي؟ أو فريق الكرة المفضل؟ أم هل تود أن يكون الجميع مثلك؟ وحين أقول تقبل الاختلاف فإنني أعني أنك لا تجد غضاضة مطلقاً في الاختلاف، وليس أن تقبل وجود الآخر المختلف على مضض حتى يمكنك أن تتخلص منه.

ولكي لا أُفهم خطأً، يجب أن أوضح شيئاً هاماً. لا يمكنك منطقياً أن تقبل من لا يقبلك على اختلافك معه، لأنه يريد أن يمحو وجودك متى حانت له الفرصة. ولو كان قبول مثل هؤلاء منطقياً لانتهت المسألة بأن كل من يختلف معهم سينتهي وجوده، وينتهي الاختلاف وتنتهي معه كل المعاني التي تمثل الحياة. لا يمكن أن تقبل من يريد أن يقتلك، أو يحرمك من حقوقك الأساسية، ومن أجل هذا وُضِعت القوانين لكي يكون لكل إنسان قدر أدنى من الحقوق لا يمكن للآخرين أن ينتقصوا منه بدون عقاب.

قبول الآخر على اختلافه أمر وصلت له الإنسانية بعد زمن طويل من التجارب البشرية وأفكار الفلاسفة والمعاناة المريعة الناتجة عن عدم قبول الاختلاف، هو أمر يمثل نضج الحضارة الإنسانية بوجه عام، وإذا نظرت نظرة فاحصة للتاريخ ستجد أن مساحة قبول الاختلاف تضمحل كلما عدت بالزمن للوراء.

كل هذا يؤدي إلى نقطة هامة جداً، وهي أن الخالق – إذا كنت تؤمن بوجوده – لا يمكن أن يأمرك بتصحيح شيء خلقه هو ذاته في الكون. الخالق سمح بوجود الاختلاف والتضاد، وبوجود الخير والشر، وسمح للإنسان المخلوق أن يعصاه، وهو القادر على كل شيء. فهل لا يقدر الخالق أن يمحو من الكون كل اختلاف لا يريده؟ هل لهذا يأمرك الخالق أن تمحو كل من يختلف معك أو لا تقبله؟ هل يمكن أن يكون الخالق قد أخطأ حينما سمح بالاختلاف وأن تكون أنت المخلوق من سيصحح هذا الخطأ؟ لا أظن. إن كنت تعتقد أنك يجب أن تمحو الاختلاف بأن تفعل كل ما يمكن فعله حتى لو خالف الضمير والفطرة البشرية الغريزية لكي يكون للجميع نفس معتقدك أو دينك، فأنت في حاجة ماسة لأن تعطي نفسك فرصة كافية للتفكير العميق في صحة ومنطقية ما تعتقده. الخالق الذي ينهاك عن القتل لا يمكن أن يكون نفس الخالق الذي يأمرك بالقتل، وهو القادر على محو أي شيء من الوجود.

تخيل لو أن لك ابن صغير، وأنك أوصيته ألا يلعب بكرته الحمراء في المنزل لكي لا يكسر شيئاً، وأيضاً أوصيته أن يلعب بكرته الزرقاء في المنزل ويكسر ما يشاء، وهي لا تختلف عن الأخرى إلا في اللون، وأنك ستعاقبه لو لعب بالكرة الحمراء فكسر شيئاً، وستعاقبه أيضاً لو لم يلعب بالكرة الزرقاء فلم يكسر شيئاً! إذا لم يبدُ لك هذا منطقياً، فكيف يبدو منطقياً أن يأمرك الله ألا تقتل إنساناً وأن تقتل آخر، وهما لا يختلفان إلا في عقيدتهما؟ وأنك لو قتلت هذا ستعاقب، ولو لم تقتل ذاك ستعاقب أيضاً! وماذا يتغير في إنسان نطق ببعض كلمات ليقنعك أنه يوافقك في العقيدة، فيصير في ثوانٍ قليلة دمه حرام وقد كان من قبل دمه مستباح؟ هل يمكن أن يكون هذا ما يريده الله؟ أن يكون الظاهر خلاف الباطن على الرغم من أن الباطن هو ما يمثل جوهر الإنسان ذاته؟

في العصور الوسطى، ولأسباب عديدة منها الجهل والجشع والطمع وحب السلطة والجاه، ظهرت محاكم التفتيش (Inquisition) في أوروبا، وكان أفظعها في إسبانيا (Spanish Inquisition)، لكن الإنسانية تعلمت من أخطائها، واعترفت الكنيسة الكاثوليكية بخطأ ما فعلت في ذلك الوقت و اعتذر بابا الكاثوليك عنه، وذهبت محاكم التفتيش إلى غير رجعة من الحضارة الغربية، وبعدها ذهبت العبودية (Slavery) بكافة اشكالها، واضطهاد السود و السكان الأصليين في الأمريكتين (Discrimination based on skin color)، ثم ذهب اضطهاد الأقليات بصورة عامة (Minority rights). نضجت الحضارة في الغرب، وما زالت ثقافة الشرق تعيش في زمن محاكم التفتيش. إن داعش (ISIS)، أو دولة الإسلام في العراق و الشام، وكل ما ومن يمثلها أو يشبهها من قريب أو بعيد لهي صورة أخرى من محاكم التفتيش، ديچا ڤو لأمر حدث من عدة قرون وانتهى، على الأقل في الغرب. ولهذا لا يمكن للغرب ولا لأي إنسان نضج بما فيه الكفاية ليدرك أن الاختلاف سنة الكون أن يقبل مثل هؤلاء، لأنهم يبغون تدمير سر وجود الكون وجماله: الاختلاف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التسميات

٢٥ يناير (29) آدم (1) اخوان مسلمين (15) استشهاد (1) إسلام (26) الأنبا بيشوي (1) الأنبا تاوضروس (1) البابا شنودة (3) البرادعي (2) إلحاد (1) الداخلية (5) الفريق أحمد شفيق (6) الفريق سامي عنان (1) الم (2) المجلس العسكري (14) انتخابات الرئاسة (9) ايمان البحر درويش (1) برلمان (7) بلطجي (7) بولس رمزي (1) بيرم التونسي (1) تعريص (4) تمييز (2) توضيح (35) توفيق عكاشة (2) ثورة (33) ثيؤقراطية (6) جزمة (2) حازم شومان (2) حازم صلاح أبو إسماعيل (2) حب (4) حجاب (1) حرية (18) حزن (3) حواء (1) خواطر (33) خيانة (5) دستور (4) ديمقراطية (13) دين (37) زجل (3) سلفيين (15) سياسة (23) سيد درويش (1) شائعات (3) شرح (25) شرطة (5) شرع (7) شريعة (7) شهيد (5) صور (3) طنطاوي (7) عبد الفتاح السيسي (1) عبد المنعم الشحات (2) عتاب (1) عصام شرف (1) عصمت زقلمة (1) عقيدة (16) علمانية (13) عنف (7) عيد الميلاد (1) غزل (3) غناء (1) فلسفة (1) فوتوشوب (1) فوضى (3) قباحة (8) قبط (21) قصة (3) كنيسة (17) ماريز تادرس (1) مبارك (2) مجلس شعب (7) مرسي العياط (3) مرشد (5) مسيحية (28) مصر (51) معارضة (7) منطق (11) مواطنة (20) موريس صادق (1) نجيب جبرائيل (1) نفاق (1) نقد (36) وحي (1)