الجمعة، 5 يوليو 2013

المنحدر الزلق

من درس علم المنطق ربما يعلم أن هناك مغالطة منطقية تسمى "المنحدر الزلق" (slippery slope) و هي بمنتهى البساطة افتراض أن حدثاً معيناً سينتج عنه سلسلة من الأحداث تنتهي بمأساة، و عادة ما يكون احتمال الانتقال من حدث لآخر في تلك السلسلة ضئيلاً، مما يجعل الوصول من نقطة البداية إلى نقطة النهاية الافتراضية أمراً صعب الحدوث و أحياناً يقارب المستحيل، و ربما أيضاً يكون في تلك السلسلة من المغالطات المنطقية الأخرى ما يجعل فرضية الانتقال من حدث لآخر فيها مغالطة في حد ذاتها و ينفي التسلسل المنطقي من أساسه. كمثال على ذلك أن ترفض أم خروج ابنها في جو بارد لأنه لو خرج في البرد سيصاب بالإنفلونزا، و أن الإنفلونزا هذه قد تكون من النوع الخطير كإنفلونزا الطيور، و أنه حينئذ قد يموت، و لو مات سيموت أبوه و أمه حزناً عليه و تبقى أخته الوحيدة بلا عائل و لا عائلة...!!

هذا النوع من المغالطات المنطقية رأيته كثيراً بعد الثورة، و كان مثالاً جلياً له ادعاء أعضاء التيار الإسلامي أن الليبرالية ستقضي على الإسلام و لذا وجب محاربتها، كما سبق و قال حازم شومان "ليبرالية يعني إيه يا برادعي..؟ يعني أمك ما تلبسش الحجاب. أمي أنا؟! أيوه... أمك إنت!" و أراه تحديداً يكثر الآن في صورة ادعاء أن عزل الجيش لمرسي العياط يعد انقلاباً عسكرياً لا يحترم الشرعية و لا القانون، و هذا الانقلاب سيعيد النظام القديم مرة أخرى، و إن كانت الاعتقالات قد بدأت اليوم بقيادات تيارات الإسلام السياسي فإنها ستنتهي حتماً--عاجلاً أو آجلاً--باعتقال المعارضين جميعاً و سيادة القمع و الطغيان، و بالتالي فإننا يجب أن نمنع هذا "الانقلاب العسكري" من الحدوث إن أردنا أن نتجنب عودة الدكتاتورية.

و هذه هي المغالطات المنطقية في هذا الادعاء:

أولاً، ما حدث لا يعد انقلاباً عسكرياً، و لا أظن أن له مثيل في التاريخ، فالانقلاب العسكري لا تسبقه مهلة و تحذير لاحتواء الوضع المتفجر في البلاد، و الانقلاب العسكري لا ينتهي بتمكين المدنيين من الحكم و الدعوة إلى انتخابات، و الانقلاب العسكري لا يكون استجابة للملايين من المعترضين الذين ملأوا الشوارع مطالبين برحيل مرسي العياط، و الانقلاب العسكري المزعوم لم يكن ليحدث لو كان الرئيس السابق مرسي قد استجاب لمطالب الملايين و أعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة. إن قادة القوات المسلحة المصرية استجابوا لنداء غالبية الشعب المصري و رفضوا تهديدات العياط و أنصاره للشعب بالدماء و الحرب الأهلية.

ثانياً، شرعية مرسي العياط التي تحدث عنها في آخر خطاب له كانت قد فُقِدت كلية، فلا شرعية لرئيس خرج نصف شعبه من كافة الطوائف و في كافة أرجاء الجمهورية يهتف بسقوطه، و تفويض الشعب له في الانتخابات الرئاسية لإدارة البلاد لا يعطيه الحق في احتكار الحكم لمدة أربع سنوات يفعل فيها ما شاء. إن تفويضه كان مشروطاً بالحفاظ على سلامة البلاد و أمنها و وحدة أراضيها، و هو ما لم يفعله مرسي، ناقضاً تعهداته التي تعهد بها في أول فترة رئاسته، و فاسخاً لعقد التفويض الذي أعطاه الشعب إياه، فما كان من الشعب إلا أنه طالبه بترك الحكم لانفساخ العقد، و ما كان منه إلا أنه تشبث بالسلطة دافعاً البلاد إلى المزيد من الانقسامات و الاضطرابات و العنف، فتحول إلى خائن يضع مصلحته هو و جماعته فوق مصلحة الوطن. لم يكن لمرسي شرعية عندما خلعته القوات المسلحة.

ثالثاً، لأن مرسي لم تكن له شرعية و لأن القوات المسلحة لم تقم بانقلاب عسكري، فإن ما حدث لا يعد طغياناً على الإطلاق، بل هو إنهاء للطغيان المتمثل في رفض الإرادة الشعبية، و لا يعد عدم احترام للشرعية و لا القانون، بل هو قمة الاحترام للشرعية التي نص عليها الدستور المعمول به حينئذ و ما قبله من دساتير، و جوهرها أن الشعب هو مصدر السلطات و ليست نتيجة الانتخابات وحدها، فنتيجة الانتخابات ما هي إلا صوت الشعب في وقت معين، فإذا تغير صوت الشعب أصبحت نتيجة الانتخابات لا تعبر عنه و لا تعبر عن الشرعية.

رابعاً، القفز في الاستنتاج إلى أن ما حدث سيعيد النظام القديم لا مبرر له و لا يدعمه شيء سوى "التخويف" من النظام القديم و ما يمثله من طغيان، تماماً كما كان النظام القديم يخوف المصريين بفزاعة الإخوان المسلمين مدعياً أن ثورة يناير 2011 ستأتي بالإخوان المسلمين في الحكم، و كان النظام قد طبع في الأذهان صورة سلبية مخيفة عن الإخوان المسلمين استخدمها في محاولة إجهاض الثورة، و نفس الشيء يحدث الآن. التخويف من النظام القديم و بطشه يُستخدم كفزاعة في محاولة لإجهاض الثورة، و لكن الوضع مختلف هذه المرة. أدرك الشعب أن النظام القديم لم يكن بعيداً تماماً عن الصواب حين كان يخوف المصريين من الإخوان المسلمين، و أكد الإخوان المسلمون للمصريين المرة تلو الأخرى أنهم كاذبون و فاشيون و لا هم لهم إلا مصلحة جماعتهم، و اليوم لا يصدق الشعب الإخوان المسلمين حين يخوفونه من النظام القديم لأنه ذاق حكم الإخوان كما ذاق حكم العسكريين فوجد الأخير أهون! و لكن النظام القديم لن يعود لأن الشعب أدرك الآن أن أمر بلاده بيده و أنه قادر على التغيير متى أراد. فزاعة النظام القديم لن تجدي.

خامساً، حملة الاعتقالات التي طالت قيادات تيارات الإسلام السياسي في مصر كان لها هدف محدد و واضح و هو تجنب حدوث المزيد من العنف. لقد هدد الإخوان المسلمون و أنصارهم عياناً بياناً بإحداث العنف و إراقة الدماء ما لم تَسِر الأمور على هواهم، و كان اعتقال قياداتهم في الأيام الأولى لهذا الانتقال أمراً بديهياً لمنعهم من إصدار أوامر ببدء العنف، و كان إغلاق قناة مصر 25 التابعة للإخوان المسلمين واجباً أيضاً لنفس السبب، تلك القناة التي كانت تؤيد فشل مرسي بأخبار كاذبة و تضليل و تدليس، و كذلك كان إغلاق القنوات المتطرفة الأخرى التي دعا فيها أصحاب الفكر المتطرف للعنف و الدماء. إذا فكرنا في الأمر من باب "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع" فإن ما حدث من اعتقالات و إغلاق لقنوات إعلامية كان فيه درء لمفسدة عظيمة هي إغراق مصر في دماء المصريين المتناحرين.

سادساً، الزعم أن الاعتقالات الحالية ستؤدي حتماً إلى طغيان جديد و اعتقالات مستمرة تنال الجميع و تقييد للحريات ليس له أساس منطقي على الإطلاق، فالاعتقالات (التي قد يكون بعضها إشاعة كاذبة) لها هدف مختلف تماماً عن إسكات المعارضة و تقييد حريتها. هذه الاعتقالات تهدف إلى حماية الوطن من العنف و الدماء ممن يحرضون على العنف و القتل، و لم تحدث اعتقالات في حق من يعارضون بدون عنف و لا تحريض. لا يمكن أن نساوي اعتقال من يحرض على الفرقة و الانقسام و الحرب الأهلية بمن يعارض بطريقة حضارية لا تلجأ للعنف و لا التحريض.

حينما يقال لك أن هذا "الانقلاب العسكري" سيؤدي إلى عودة النظام القديم و تقييد الحريات فأدرك أن هذه مغالطة منطقية تعتمد على قدرتهم على تخويفك. لا تخف. الشعب الذي أزاح النظام مرتين قادر على إزاحة أي نظام مستبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التسميات

٢٥ يناير (29) آدم (1) اخوان مسلمين (15) استشهاد (1) إسلام (26) الأنبا بيشوي (1) الأنبا تاوضروس (1) البابا شنودة (3) البرادعي (2) إلحاد (1) الداخلية (5) الفريق أحمد شفيق (6) الفريق سامي عنان (1) الم (2) المجلس العسكري (14) انتخابات الرئاسة (9) ايمان البحر درويش (1) برلمان (7) بلطجي (7) بولس رمزي (1) بيرم التونسي (1) تعريص (4) تمييز (2) توضيح (35) توفيق عكاشة (2) ثورة (33) ثيؤقراطية (6) جزمة (2) حازم شومان (2) حازم صلاح أبو إسماعيل (2) حب (4) حجاب (1) حرية (18) حزن (3) حواء (1) خواطر (33) خيانة (5) دستور (4) ديمقراطية (13) دين (37) زجل (3) سلفيين (15) سياسة (23) سيد درويش (1) شائعات (3) شرح (25) شرطة (5) شرع (7) شريعة (7) شهيد (5) صور (3) طنطاوي (7) عبد الفتاح السيسي (1) عبد المنعم الشحات (2) عتاب (1) عصام شرف (1) عصمت زقلمة (1) عقيدة (16) علمانية (13) عنف (7) عيد الميلاد (1) غزل (3) غناء (1) فلسفة (1) فوتوشوب (1) فوضى (3) قباحة (8) قبط (21) قصة (3) كنيسة (17) ماريز تادرس (1) مبارك (2) مجلس شعب (7) مرسي العياط (3) مرشد (5) مسيحية (28) مصر (51) معارضة (7) منطق (11) مواطنة (20) موريس صادق (1) نجيب جبرائيل (1) نفاق (1) نقد (36) وحي (1)