من درس علم المنطق ربما يعلم أن هناك مغالطة منطقية تسمى "المنحدر الزلق" (slippery slope) و هي بمنتهى البساطة افتراض أن حدثاً معيناً سينتج عنه سلسلة من الأحداث تنتهي بمأساة، و عادة ما يكون احتمال الانتقال من حدث لآخر في تلك السلسلة ضئيلاً، مما يجعل الوصول من نقطة البداية إلى نقطة النهاية الافتراضية أمراً صعب الحدوث و أحياناً يقارب المستحيل، و ربما أيضاً يكون في تلك السلسلة من المغالطات المنطقية الأخرى ما يجعل فرضية الانتقال من حدث لآخر فيها مغالطة في حد ذاتها و ينفي التسلسل المنطقي من أساسه. كمثال على ذلك أن ترفض أم خروج ابنها في جو بارد لأنه لو خرج في البرد سيصاب بالإنفلونزا، و أن الإنفلونزا هذه قد تكون من النوع الخطير كإنفلونزا الطيور، و أنه حينئذ قد يموت، و لو مات سيموت أبوه و أمه حزناً عليه و تبقى أخته الوحيدة بلا عائل و لا عائلة...!!
هذا النوع من المغالطات المنطقية رأيته كثيراً بعد الثورة، و كان مثالاً جلياً له ادعاء أعضاء التيار الإسلامي أن الليبرالية ستقضي على الإسلام و لذا وجب محاربتها، كما سبق و قال حازم شومان "ليبرالية يعني إيه يا برادعي..؟ يعني أمك ما تلبسش الحجاب. أمي أنا؟! أيوه... أمك إنت!" و أراه تحديداً يكثر الآن في صورة ادعاء أن عزل الجيش لمرسي العياط يعد انقلاباً عسكرياً لا يحترم الشرعية و لا القانون، و هذا الانقلاب سيعيد النظام القديم مرة أخرى، و إن كانت الاعتقالات قد بدأت اليوم بقيادات تيارات الإسلام السياسي فإنها ستنتهي حتماً--عاجلاً أو آجلاً--باعتقال المعارضين جميعاً و سيادة القمع و الطغيان، و بالتالي فإننا يجب أن نمنع هذا "الانقلاب العسكري" من الحدوث إن أردنا أن نتجنب عودة الدكتاتورية.
و هذه هي المغالطات المنطقية في هذا الادعاء:
أولاً، ما حدث لا يعد انقلاباً عسكرياً، و لا أظن أن له مثيل في التاريخ، فالانقلاب العسكري لا تسبقه مهلة و تحذير لاحتواء الوضع المتفجر في البلاد، و الانقلاب العسكري لا ينتهي بتمكين المدنيين من الحكم و الدعوة إلى انتخابات، و الانقلاب العسكري لا يكون استجابة للملايين من المعترضين الذين ملأوا الشوارع مطالبين برحيل مرسي العياط، و الانقلاب العسكري المزعوم لم يكن ليحدث لو كان الرئيس السابق مرسي قد استجاب لمطالب الملايين و أعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة. إن قادة القوات المسلحة المصرية استجابوا لنداء غالبية الشعب المصري و رفضوا تهديدات العياط و أنصاره للشعب بالدماء و الحرب الأهلية.
ثانياً، شرعية مرسي العياط التي تحدث عنها في آخر خطاب له كانت قد فُقِدت كلية، فلا شرعية لرئيس خرج نصف شعبه من كافة الطوائف و في كافة أرجاء الجمهورية يهتف بسقوطه، و تفويض الشعب له في الانتخابات الرئاسية لإدارة البلاد لا يعطيه الحق في احتكار الحكم لمدة أربع سنوات يفعل فيها ما شاء. إن تفويضه كان مشروطاً بالحفاظ على سلامة البلاد و أمنها و وحدة أراضيها، و هو ما لم يفعله مرسي، ناقضاً تعهداته التي تعهد بها في أول فترة رئاسته، و فاسخاً لعقد التفويض الذي أعطاه الشعب إياه، فما كان من الشعب إلا أنه طالبه بترك الحكم لانفساخ العقد، و ما كان منه إلا أنه تشبث بالسلطة دافعاً البلاد إلى المزيد من الانقسامات و الاضطرابات و العنف، فتحول إلى خائن يضع مصلحته هو و جماعته فوق مصلحة الوطن. لم يكن لمرسي شرعية عندما خلعته القوات المسلحة.
ثالثاً، لأن مرسي لم تكن له شرعية و لأن القوات المسلحة لم تقم بانقلاب عسكري، فإن ما حدث لا يعد طغياناً على الإطلاق، بل هو إنهاء للطغيان المتمثل في رفض الإرادة الشعبية، و لا يعد عدم احترام للشرعية و لا القانون، بل هو قمة الاحترام للشرعية التي نص عليها الدستور المعمول به حينئذ و ما قبله من دساتير، و جوهرها أن الشعب هو مصدر السلطات و ليست نتيجة الانتخابات وحدها، فنتيجة الانتخابات ما هي إلا صوت الشعب في وقت معين، فإذا تغير صوت الشعب أصبحت نتيجة الانتخابات لا تعبر عنه و لا تعبر عن الشرعية.
رابعاً، القفز في الاستنتاج إلى أن ما حدث سيعيد النظام القديم لا مبرر له و لا يدعمه شيء سوى "التخويف" من النظام القديم و ما يمثله من طغيان، تماماً كما كان النظام القديم يخوف المصريين بفزاعة الإخوان المسلمين مدعياً أن ثورة يناير 2011 ستأتي بالإخوان المسلمين في الحكم، و كان النظام قد طبع في الأذهان صورة سلبية مخيفة عن الإخوان المسلمين استخدمها في محاولة إجهاض الثورة، و نفس الشيء يحدث الآن. التخويف من النظام القديم و بطشه يُستخدم كفزاعة في محاولة لإجهاض الثورة، و لكن الوضع مختلف هذه المرة. أدرك الشعب أن النظام القديم لم يكن بعيداً تماماً عن الصواب حين كان يخوف المصريين من الإخوان المسلمين، و أكد الإخوان المسلمون للمصريين المرة تلو الأخرى أنهم كاذبون و فاشيون و لا هم لهم إلا مصلحة جماعتهم، و اليوم لا يصدق الشعب الإخوان المسلمين حين يخوفونه من النظام القديم لأنه ذاق حكم الإخوان كما ذاق حكم العسكريين فوجد الأخير أهون! و لكن النظام القديم لن يعود لأن الشعب أدرك الآن أن أمر بلاده بيده و أنه قادر على التغيير متى أراد. فزاعة النظام القديم لن تجدي.
خامساً، حملة الاعتقالات التي طالت قيادات تيارات الإسلام السياسي في مصر كان لها هدف محدد و واضح و هو تجنب حدوث المزيد من العنف. لقد هدد الإخوان المسلمون و أنصارهم عياناً بياناً بإحداث العنف و إراقة الدماء ما لم تَسِر الأمور على هواهم، و كان اعتقال قياداتهم في الأيام الأولى لهذا الانتقال أمراً بديهياً لمنعهم من إصدار أوامر ببدء العنف، و كان إغلاق قناة مصر 25 التابعة للإخوان المسلمين واجباً أيضاً لنفس السبب، تلك القناة التي كانت تؤيد فشل مرسي بأخبار كاذبة و تضليل و تدليس، و كذلك كان إغلاق القنوات المتطرفة الأخرى التي دعا فيها أصحاب الفكر المتطرف للعنف و الدماء. إذا فكرنا في الأمر من باب "درء المفاسد مقدم على جلب المنافع" فإن ما حدث من اعتقالات و إغلاق لقنوات إعلامية كان فيه درء لمفسدة عظيمة هي إغراق مصر في دماء المصريين المتناحرين.
سادساً، الزعم أن الاعتقالات الحالية ستؤدي حتماً إلى طغيان جديد و اعتقالات مستمرة تنال الجميع و تقييد للحريات ليس له أساس منطقي على الإطلاق، فالاعتقالات (التي قد يكون بعضها إشاعة كاذبة) لها هدف مختلف تماماً عن إسكات المعارضة و تقييد حريتها. هذه الاعتقالات تهدف إلى حماية الوطن من العنف و الدماء ممن يحرضون على العنف و القتل، و لم تحدث اعتقالات في حق من يعارضون بدون عنف و لا تحريض. لا يمكن أن نساوي اعتقال من يحرض على الفرقة و الانقسام و الحرب الأهلية بمن يعارض بطريقة حضارية لا تلجأ للعنف و لا التحريض.
حينما يقال لك أن هذا "الانقلاب العسكري" سيؤدي إلى عودة النظام القديم و تقييد الحريات فأدرك أن هذه مغالطة منطقية تعتمد على قدرتهم على تخويفك. لا تخف. الشعب الذي أزاح النظام مرتين قادر على إزاحة أي نظام مستبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق