دخلت مصر مرحلة جديدة في تاريخها بعد انتهاء حكم الإخوان المسلمين، و لا يخفى على أحد أن المرحلة الجديدة تتشابه مع مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير 2011 في عدة نقاط، و لكنها تختلف معها أيضاً في نقاط أخرى. فهل يسلك المصريون طريق الانتقام و الإقصاء في المرحلة القادمة أم طريق التصالح و الاحتواء و التعاون؟ في رأيي أن الأخير هو الطريق الوحيد الذي يحمل أملاً في بناء دولة مدنية حديثة قائمة على المواطنة و احترام القانون و حقوق الإنسان. و فيما يلي أناقش أسباب قناعتي بهذا الرأي.
لقد جرب المصريون الإقصاء بعد ثورة يناير 2011 و كانت المحصلة النهائية صفراً مخيباً للآمال. كانت مشاعر المصريين بعد الثورة تحمل الكثير من النقمة على الحزب الوطني الديمقراطي، و استغلت تيارات الإسلام السياسي هذه المشاعر للاستئثار بالساحة السياسية و إصدار قانون العزل السياسي الذي يحرم أعضاء الحزب المنحل من ممارسة العمل السياسي، و كانت نتيجة انفراد تيار الإسلام السياسي بالحكم سلسلة من الفشل و التخبط نتيجة نقص الخبرة ضمن أسباب عدة، و أدى ذلك إلى الثورة الثانية في 30 يونيو 2013.
كنت و لا زلت رافضاً لفكرة العزل السياسي مطلقاً، و ذلك لسببين أولهما أن إقصاء المعارضة القوية لا يصب في صالح المواطن المصري، لأن استئثار فصيل بذاته بالحكم لن يحفزه لتحسين أدائه على الساحة السياسية، تماماً كما كان يحدث في حالة الحزب الوطني قبل الثورة، فالضمان الحقيقي للتحسن المستمر في الأداء السياسي هو المنافسة الحقيقية، و ثانيهما أن العزل السياسي حرمان من حقوق أصيلة للمواطن، و هو على هذا النحو عقوبة تقع على المعزولين، و الأصل في القانون أنه لا عقوبة بدون جرم و حكم قضائي، و على ذلك يكون تطبيق عقوبة العزل على فصيل من الفصائل السياسية بدون ثبوت تهمة الفساد على أفراده و صدور حكم قضائي بذلك خرقاً لمبدء أصيل في القانون و في المنطق عامة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الإقصاء يتم بلا تمييز بين أفراد الفصيل المُقصَى، و لا يمكن الادعاء أن كل أفراد فصيل من الفصائل السياسية بلا استثناء فاسدون، و عليه فإن إقصاءهم جميعاً قد يحرم الدولة من كفاءات في هذا الفصيل هي في أمَسّ الحاجة إليها في مرحلة البناء، كما أن إقصاء كل أفراد فصيل سياسي هو أخذ بالشبهات غير مبرر يفتح الباب على مصراعيه للأفعال الانتقامية، و ليس الانتقام أبداً حلاً لأي مشكلة.
و من أجل هذا يجب أن نعرف الانتقام و الفرق بينه و بين القصاص. القصاص في اللغة العربية هو القتل بالقتل أو الجرح بالجرح، و لكنني سأوسع مجال التعريف في سياق هذا المقال ليشمل معاقبة المخطئ بعد ثبوت تهمته، سواء كان الخطأ قتلاً أو جرحاً أو أي خرق للقانون بأي شكل من الأشكال. الانتقام عادة ما يكون موجهاً من فرد أو مجموعة من الأفراد تجاه فرد آخر أو مجموعة أخرى، بينما القصاص في الدولة يكون موجهاً من مؤسسات الدولة تجاه فرد أو مجموعة من الأفراد أو شخصيات اعتبارية. الانتقام عادة ما يحمل رغبة أنانية ضيقة في شفاء الصدور و رد الأذى بالأذى، أما القصاص فهو تحقيق للعدل و سيادة القانون و حفظ للمجتمع من التفكك. الانتقام ينتج عما يحسبه المنتقم أذىً قد وُجِّه إليه و قد لا يكون أذىً على الإطلاق، فمثلاً قد يحسب اللص أن سجنه عقاباً على فعلته أذىً له يستحق الانتقام ممن سجنوه، و هو ليس كذلك، أما القصاص فله ضوابط قانونية تحدد ما يعد جرماً أو خرقاً للقانون يستحق العقاب، فلا يُترك فيه مجال للتقييم الشخصي لما قد يعد أذىً. الانتقام لا تسبقه تحريات و لا تحقيقات و لا محاكمات، و قد يكون الانتقام مبنياً على سوء فهم أو معلومات خاطئة فيصير عدوان المنتقم ظلماً بيناً، أما القصاص فيتطلب تحقيقات و محاكمة و تمنح فيه فرصة الدفاع للمتهم، و لا يتم تطبيق العقوبة على المتهم إلا بعد ثبوت التهمة عليه بالأدلة. الانتقام قد يؤدي إلى دائرة لا تنتهي من العنف، فكل طرف من الطرفين قد يرد عدوان الطرف الآخر بعدوان مماثل أو أكثر، و قد رأينا الأمثلة واضحة في حالات الثأر في صعيد مصر، أما القصاص فلا يؤدي إلى مثل هذه الدائرة التي لا تنتهي.
و لكل هذه الأسباب أرفض الإقصاء و الانتقام كطريق يسلكه المصريون بعد الثورة، و أرى هذا الطريق مؤدياً إلى المزيد من المشكلات و الانقسام و التفكك.
فماذا عن التصالح؟ أعني به التصالح المجتمعي بين مختلف طوائف المجتمع و التوحد على هدف واحد هو بناء دولة حديثة متقدمة و قوية. ظهرت في الفترة التالية لثورة يناير 2011 العديد من الانقسامات بين طوائف الشعب المصري المختلفة دينياً و اجتماعياً و سياسياً و ثقافياً، و انقسم المجتمع المصري إلى طوائف لا تقبل وجود الآخر، و هذا الانقسام بالطبع لا يصب في مصلحة الوطن لأن في الاتحاد قوة و في التفرق ضعف. التصالح الذي أعنيه هو أن تقبل كل من هذه الطوائف وجود الآخر على اختلافه معها بدون استعلاء و لا إقصاء و لا اتهام بالعمالة و لا الخيانة و لا الكفر، و بالطبع بدون دعوات العنف. التصالح هو التركيز على وحدة الهدف أكثر من الاختلافات، و نبذ خلافات الماضي و كل ما يحمله من مشاعر سلبية و التطلع إلى مستقبل يحتوي الجميع و يتعاون فيه الجميع لرفعة الوطن.
و التصالح حتماً لا يعني إعفاء المخطئ من العقوبة. التصالح يتوافق مع القصاص و لا يتوافق مع الانتقام، فبينما يُوجَّه الانتقام لفصيل كامل أو أكثر يقتصر القصاص على المخطئين من أفراد هذا الفصيل أو ذاك بغض النظر عن انتماءاتهم، فيعاقبهم على جرمهم و ليس على انتمائهم الفكري أو العقيدي أو السياسي. الخلاف في الفكر لم يكن أبداً جريمة، و في كل دول العالم المتحضر يضمن القانون حرية الرأي و التعبير و يحميها، و التصالح يتطلب اختلافاً بالضرورة، بينما الإقصاء هو محاولة محو المختلف من الوجود.
إن تيار الإسلام السياسي كان و سيظل موجوداً شئنا أم أبينا، و محاولات إقصائه عن الساحة السياسية لن تفلح، بل و ربما ينتج عنها عنفاً لا داعي له على الإطلاق، و أزعم أن أعضاء الحزب الوطني السابقين يحاولون هم أيضاً تنظيم أنفسهم للدخول في الحياة السياسية بشكل جديد. احتواء تيار الإسلام السياسي في المجتمع واجب لتجنب الفرقة و تقسيم المجتمع و العنف، و للأسباب التي من أجلها أرفض الإقصاء، و أرى أيضاً أن احتواء الأعضاء السابقين للحزب الوطني المنحل واجب لنفس الأسباب. للكل حقوق في الوطن تساوي حقوق الآخر.
فماذا عن الادعاء أن الإقصاء واجب لحماية المجتمع أو الحياة السياسية من فصيل ألحق بها الأذى؟ أزعم أن الإقصاء لن يحمي المجتمع، بل سيدفع المُقصَى إلى العمل في الخفاء لتحقيق أهدافه، و قد يضطر إلى سلوك طرق غير شرعية من أجل تحقيق ذلك، و أزعم أيضاً أن الإقصاء يعزز فكر المُقصَى عن طريق إظهاره بمظهر الشهيد الذي يدافع عن معتقده إلى الرمق الأخير، و هو بهذا يزيد من شعبية الفريق المُقصَى في الشارع المصري، و لنا في جماعة الإخوان المسلمين التي حُظرت سياسياً بحكم القانون مثال و عبرة. الطريقة الصحيحة في رأيي لحماية المجتمع و الحياة السياسية هي تفعيل آليات مراقبة تضمن أن يعمل الجميع وفقاً للقانون، و أن يخضع الجميع بلا استثناء للقانون، و في هذه الحالة فإن من يخالف القانون يعاقب عقاباً مبرراً لا يظهره بمظهر الشهيد بل بمظهر المجرم. و على من يرى أن هناك اتجاه فكري أو عقيدي معين في المجتمع قد يضر به أن يحارب الفكر بالفكر و ينشر الوعي بين الناس، فالفكرة لا تحدها أسوار و لا قضبان سجون و لا مسافات و لا أزمنة، و لا يمكن أبداً القضاء عليها بالإقصاء و إنما بالإقناع.
و يأخذني الكلام هنا إلى نقطة أخيرة و هي التصالح مع مؤسسات الدولة الفاسدة. الادعاء بأن الفساد متغلغل في مؤسسة من مؤسسات الدولة لدرجة يستحيل معها الإصلاح و يجب معها الهدم ثم إعادة البناء لا يقيم وزناً لصعوبة تنفيذ هذا على أرض الواقع، و التي تقارب المستحيل، فمن أين سنأتي بكوادر ذات خبرة تستبدل الكوادر الموجودة حالياً. أذكر في هذا السياق تحديداً جهاز الشرطة الذي طالما عانى المصريون من بطشه في فترة ما قبل يناير 2011، ذلك الجهاز الذي يحتوي على أكثر من مليون فرد من أفراد الشرطة ما بين ضباط و جنود، و أرى أنه من المستحيل أن يُهدَم هذا الجهاز بالكامل و يُعاد بناؤه، و انما الحل الأقرب للواقع هو--كما قلت سابقاً--تفعيل آلية رقابية على جهاز الشرطة لضمان التزام أفراده بالقانون. التركيز على أخطاء جهاز الشرطة في الماضي لن يفيد أحداً مطلقاً، و لن يساعد في بناء الدولة، و أرى التصالح بمفهومه الذي قدمته سابقاً الطريق الوحيد لإعادة العلاقة الطبيعية بين جهاز الشرطة و الشعب.
التصالح يا سادة... التصالح و الاحتواء و التعاون، و كلها تتوافق تماماً مع القصاص و مع سيادة القانون. فلنفتح صفحة جديدة في تاريخ مصر و لنتعلم من أخطاء الماضي إذا كنا نريد مستقبلاً أفضل لأبنائنا. حفظ الله مصر و المصريين و جنبهم شر الفتن و الانقسامات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق