لمن لا يعلم من هم السلفيون، فهم من ينتمون لأحد التيارات الإسلامية السياسية التي تتخذ الإسلام مرجعاً رئيسياً (و أحياناً وحيداً) لإدارة شئون الدولة، و هم يدعون أنهم يسيرون على نهج "السلف الصالح" في الإسلام، و هم تيار يميني متطرف. و لمن لا يعلم من هم الجمهوريون، فهم من ينتمون للحزب الجمهوري بالولايات المتحدة الأمريكية، و هو حزب يميني أيضاً و عبر بعض قياداته المشهورين عن آراء يمينية متطرفة تدعي الاستناد إلى الدين المسيحي و الكتاب المقدس. و يمتاز كل من هذين التيارين بوصفهما من اليمين المتطرف بالأسلوب "الأبوي" في التعامل مع الدولة، فهم يعرفون الأصلح للناس حتى و إن لم يوافق الناس عليه، و هم المسئولون في نظرهم عن حماية المجتمع من الأخطار التي يرونها حتى و إن لم يرها الآخرون، و هم المسئولون عن إرضاء الله و نشر الدين و تطبيقه. فما هو الفارق إذًا بينهما؟
الفارق في أغلبه يمكن تلخيصه في كلمة واحدة و هي "الدين".
المسيحية لا تحتوي على تشريعات كثيرة خاصة بأمور الدولة، و من الآيات المشهورة جداً عن السيد المسيح قوله "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلهِ لِلهِ" [متى ٢٢ : ٢١؛ مرقس ١٢ : ١٧؛ لوقا ٢٠ : ٢٥]. و ربما كان التشريع الأساسي في المسيحية الذي لا يختلف عليه أي مسيحي من الطوائف المسيحية الأساسية (الأورثوذكسية و الكاثوليكية و البروتستانتية) هو شريعة الزوجة الواحدة. في الطلاق اختلفت الطوائف، فالكاثوليك لا يسمحون بالطلاق لأي سبب كان، و الأورثوذكس يطلقون لعلة الزنا كما جاء في الكتاب المقدس، و البروتستانت أكثر تساهلاً بشكل ملحوظ في مسألة التطليق، و تتباين الاتجاهات البروتستانتية المختلفة في موقفها من هذه المسألة. أما ما يختص بشئون إدارة الدولة و نظام الحكم و حتى باقي الأحوال الشخصية من توريث و حضانة و غيرها فليس لها ذكر في المسيحية. أي أنها متروكة لترتيب البشر بحسب نظرتهم للأمور. و لن يستطيع أي من الجمهوريين أن يأتي بنص صريح من الكتاب المقدس يدعم به مشروع قانون مثلاً، و إن أتى بنص فسيضطر لأن يلوي عنق النص محاولاً تفسيره حسبما شاء.
أما الإسلام فيختلف تماماً في هذه النقطة، فهو يحتوي على تشريعات تخص تفاصيل الأحوال الشخصية و إدارة شئون الدولة و بعض العقوبات الجنائية و معاملة الأفراد (و ليس المواطنين، فلا مواطنة في الإسلام) داخل الدولة و حتى العلاقات الخارجية بالدول الأخرى. و معظم هذه التشريعات تقع تحت بند "ظني الدلالة"، و هو ما كان لفظه يحتمل أكثر من معنى و اختلفت المذاهب في تفسيره، و البعض منها أيضاً يقع تحت بند "ظني الثبوت" و هو ما يستند على نصوص لم يجمع الأوائل على صحتها. و التشريع الإسلامي له مبادئ هي حفظ الدين (الإسلامي بالطبع) و حفظ العقل و حفظ النفس و حفظ النسل و حفظ المال، و تحت هذه المبادئ يمكن أن تجد مئات (و ربما آلاف) الآراء و الاتجاهات المختلفة، و كلها يستند على نصوص دينية، و كلها له ما يدعمه من فهم علماء الدين الإسلامي القدامى و المحدثين. أي أنه من الممكن جداً أن يؤتى بنصوص إسلامية تدعم قانوناً ما في الدولة بدون الحاجة على الإطلاق للي أعناق النصوص.
الأمر الثاني المختلف هو أن الإسلام يأمر المسلم بتطبيق شرع الله في الأرض، أي أن الشرع الإسلامي واجب التطبيق و ليس اختيارياً. في المسيحية الأمر مختلف تماماً، فالمسيحي لم يؤمر بالوصاية على غيره من البشر، بل قال السيد المسيح "أَخْرِجْ أَوَّلًا ٱلْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ ٱلْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!" [متى ٧ : ٥؛ لوقا ٦ : ٤٢]، أي أن على كل إنسان أن يهتم بإرضاء الله لا أن يهتم بأن يرضي غيره الله، و حتى عندما أرسل تلاميذه قال لهم "وَكُلُّ مَنْ لَا يَقْبَلُكُمْ وَلَا يَسْمَعُ لَكُمْ، فَٱخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَٱنْفُضُوا ٱلتُّرَابَ ٱلَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لِأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ" [مرقس ٦ : ١١]، أي أنهم ليسوا مسئولين عن تطبيق أي شرع أو قوانين في الأرض. و هذا معناه أن السلفيين يؤمنون أنهم مأمورون من الله بتنفيذ أحكامه في الأرض بينما الجمهوريون لا يعتبرون أن هناك أمراً إلهياً بتنفيذ أحكام الله، و إنما ستكون الحياة أفضل إن فعل المجتمع ما يرونه مسرة لله فيرضى الله عنهم.
الأمر الثالث هو محتوى العنف في خطاب الفريقين. في الإسلام آيات و أحاديث و مذاهب عنيفة كما أن فيه عكس ذلك تماماً، و غالباً ما يختار السلفيون المنهج العنيف و يجدون لآرائهم مبررات و أسانيد واضحة في الإسلام، بينما في المسيحية لا ترى عنفاً في النصوص الدينية للعهد الجديد، فلا يمكن للجمهوريين أن يبرروا أي عنف مستخدمين نصوصاً صريحة و لا أسانيد مقنعة، بل يلجئون هنا أيضاً إلى لي أعناق النصوص و استخدام مفاهيم غريبة عن عموم المذاهب المسيحية، و أخص بالذكر هنا طائفة المورمون التي لا تعتبرها الكنائس الثلاث طائفة مسيحية، بل هم لهم كتابهم الخاص و يختلفون في الإيمانيات الأساسية عن المفاهيم المسيحية الثابتة، و هم الفريق الذي يميل أكثر إلى العنف في الحزب الجمهوري.
الأمر الرابع أن الإسلام لا يساوي بين الناس في المجتمع، بل أن هناك تمييز واضح في الإسلام يفضل الرجال على النساء و يفضل المسلم على غير المسلم، و لقد تحدثت عن هذه النقطة بتفصيل أكثر في مقالين سابقين عن تطبيق الشريعة و الليبرالية، و ليس في المسيحية أي نصوص تفرق في الحقوق المدنية بين الرجل و المرأة أو بين المسيحي و غير المسيحي. و قد يقول قائل إن الجمهوريون يميزون ضد غير الأمريكان البيض المسيحيين، و هذا صحيح بكل تأكيد و لكن هذا اتجاههم الفكري الذي لا سند له من الكتاب المقدس على الإطلاق، أي أن هذه الأفكار لا يمكن أن تكتسب قداسة من أي نوع في المجتمع الأمريكي.
الأمر الخامس أن الإسلام الأصولي لا يعرف الديمقراطية. نظام الحكم في الإسلام الأصولي يعتمد على الشورى و هي مختلفة جملة و تفصيلاً عن الديمقراطية، و فكرة الخلافة الإسلامية تتعارض مع مبادئ الديمقراطية في أن الخليفة له البيعة حتى يموت، فهو الحاكم الذي لا يبدل و إن عاش ألف عام، و التاريخ الإسلامي لا يقدم لنا أمثلة ناجحة للخلافة الإسلامية يمكن تطبيقها في العصر الحديث، و لقد شاهدت حلقتين من برنامج "سؤال جريء" نوقشت فيهما الخلافة الرشيدة و باقي الخلافة حتى نهاية الخلافة العثمانية، و أجد صعوبة بالغة في أن أصدق أن النظام الذي فشل في تقديم نموذج واحد ناجح على مر أربعة عشر قرناً من الزمان يمكن أن يقدم لنا الآن نموذجاً ناجحاً. الاختلاف الأساسي في هذه النقطة أن السلفيون لا يؤمنون بالتداول السلمي للحكم بينما الجمهوريون يؤمنون به و ينفذونه.
الأمر الأخير لا يتعلق بهاتين المجموعتين مباشرة و إنما بالمجتمع المحيط بهما. السلفيون يدعون لما يعتقدون به في المجتمع المصري الذي يدين أغلبه بالإسلام السني بينما الجمهوريون يعملون في مجتمع متعدد الأديان، و حتى إن كانت أغلبية سكانه يدينون بالمسيحية فهم على مذاهب مختلفة و هذا التعدد يساعد في منع اتجاه سياسي ما من السيطرة التامة على مقاليد الحكم. السلفيون يعملون في مجتمع لا يعرف معنى الديمقراطية و لم يمارسها أو يعشها من قبل بينما الجمهوريون يعملون في مجتمع حر ديمقراطي منذ عقود طويلة. القانون المصري لا يمنح المواطن حرية التعبير عن الرأي كما يمنحه القانون الأمريكي. نسبة الجهل و الفقر في المجتمع المصري أضعاف ما هي عليه في المجتمع الأمريكي، و هذه تربة خصبة لزراعة التطرف الأعمى، و خصوصاً عندما يكون هذا التطرف دينياً.
و عليه فإن من يقارن بين اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية و بين اليمين المتطرف في مصر لا يجب أن يغفل أو يتغافل عن مثل هذه الاختلافات، فهما حتماً ليسا مثيلين إلا في المغالاة في إقحام الدين في السياسة و محاولة استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية، أما ما قد ينتج عن وصول مثل هذه التيارات للحكم فهو شديد الاختلاف طبقاً للعقائد، و كما أنني رأيت ما يمكن أن يفعله اليمين الإسلامي المتطرف متمثلاً في أفغانستان و رأيت ما يمكن أن يفعله اليمين الأمريكي المتطرف متمثلاً في إدارة جورج بوش الابن، فإنني أرجو من الله ألا يصل اليمين الإسلامي المتطرف للحكم في مصر و سعدت بفشل الجمهوريين في انتخابات الرئاسة الأمريكية، و حتماً أدعو إلى الله ألا أرى يوماً يحكم فيه اليمين المتطرف في الشرق و في الغرب، و لا أريد أن أتخيل النتائج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق