الجمعة، 2 سبتمبر 2011

وقفة حساب و تأمل

ليس اليوم ذكرى مولدي و لا زواجي و لا هو أول يوم في السنة و لا هو أي مناسبة خاصة من أي نوع، و لكن هو اليوم الذي توفر لي القليل من الوقت لأقف مع نفسي وقفة حساب و مراجعة للفترة الماضية بين ما حول قيام ثورة ٢٥ يناير و حتى الآن. و لكي لا أطيل، فلأبدأ الحساب.

في المسألة الدينية:

و هي الشغل الشاغل للكثيرين.

كنت و ما زلت متمسكاً بعقيدتي في وجود إله واحد خالق للكون و مدبر له، و في إيماني المسيحي الأرثوذكسي. الفارق الجوهري أنني الآن أفكر فيما أعتقد فيه أكثر بكثير مما كنت أفعل من قبل. سألت نفسي أسئلة مثل "هل الله موجود" و "هل إيماني صحيح"؟ لم أستح و لم أخف من الله و أنا أسأل، ليقيني بأنه لو أن هناك إله خلق لي العقل فهو يريدني أن أستخدمه لا أن ألغيه.

كنت و ما زلت مؤمناً أن الدين اختيار شخصي بحت و حرية العقيدة يجب أن تكون مطلقة بدون أي قيود.

كنت حساساً لما قد يصيب المسيحيين من تمييز في مصر، غير أني لم أكن مفرط الحساسية، و صرت أقل حساسية لما يصيب المسيحيين من تمييز و أكثر حساسية لما يصيب الإنسان من تمييز في مصر، بغض النظر عن دينه.

لم أكن أبداً كارهاً للمسلمين و لا لأي من أتباع أي ديانة معينة، و كان و لا يزال لي من المسلمين أصدقاء أعزاء في مكانة الأخوة، و إنما كنت و لا أزال كارهاً للمتعصبين المتطرفين بغض النظر عن دينهم.

في المسألة الثورية:

و هي في رأيي تحتل المرتبة الأولى أو الثانية (بعد المسألة الدينية) في عقل كل المصريين في هذه المرحلة.

كنت من أشد المؤيدين للثورة من أول يوم لها، و كان أملي في المصريين كبيراً جداً، و لكن تطورات الموقف حطمت الآمال العريضة و بقي منها فقط أملي في ألا تنهار مصر أو تنحدر قروناً إلى الوراء، و أن يهب الثوار للحفاظ على ما سالت من أجله الدماء الغالية: الحرية و العدالة الإجتماعية و الكرامة للمواطن المصري.

لا أندم و لو شبهة ندم على أيام مبارك. إنسان مصري مكرم حر في مصر المنحدرة قروناً للخلف أفضل من إنسان مصري مهزوم ضعيف أسير مكبل معدوم الكرامة جائع مريض خائف في مصر القرن الحادي و العشرين.

و أدعو الله سبحانه أن أرى الإنسان المصري المكرم الحر في مصر القرن الثاني و العشرين و قد سبقت عصرها.

في المسألة السياسية:

و قد صار الآن عندنا في مصر الملايين من "خبراء" السياسة. كانت علاقتي بالسياسة من قبل أنني حاولت إستخراج بطاقة انتخابية و فشلت، ثم ذهبت للإدلاء بصوتي في آخر إستفتاء على تعديل الدستور كنت فيه متواجداً بمصر و فشلت أيضاً لأن إسمي كان غير مقيد بالكشوف...! بدأت أثقف نفسي سياسياً بعد الثورة، و وجدت أن اتجاهاتي الفكرية تتماشى مع التيار العلماني الليبرالي (أي أنني كافر زنديق داعر و ربما شاذ). و كما ثقفت نفسي فأنا على أتم ثقة أن الكثيرين فعلوا مثلما فعلت. و هذا في حد ذاته مكسب عظيم للمصريين. صار لي رأي فيما يحدث على الساحة السياسية إنطلاقاً من أن رأيي له قيمة في إحداث التغيير، و بدأت أعبر عن رأيي بحرية (ربما في بعض أحيان زائدة عن الحد)، و كما أعبر عن رأيي بحرية، صار الكثيرون أيضاً يعبرون عن آرائهم بحرية، حتى و لو كانت تلك الآراء أوهام أو حتى تخاريف، و هذا أيضاً في حد ذاته مكسب عظيم للمصريين.

في المسألة الوطنية:

كشفت الثورة عن أنواع مختلفة من المواطنين.

النوع الأول هو النوع الوطني الثائر الذي يريد أن يغير البلد بيده بين ليلة و ضحاها و يملؤه الكثير و الكثير من الحماس، و من أمثال هؤلاء من خرجوا إلى الميدان و افترشوا الأرض و التحفوا السماء و ضحوا براحتهم و خاطروا بأنفسهم من أجل تحقيق أحلامهم، يريدون أن يقضوا على الفساد و يجتثوه من جذوره فلا يتركون منه أثراً. أظنني من هذا النوع.

النوع الثاني هو النوع الوطني الخنوع الذي يريد أن يغير البلد و لكن ليس عنده إستعداد للمخاطرة بالراحة و لا "الاستقرار" كما يدعوه البعض. هذا النوع يحب مصر أيضاً حباً لا يقل عن حب النوع الأول لها، و لكنه نتاج عقود من الإخضاع الجبري للمواطن المصري الذي نتج عنه تمسك مخيف بلقمة العيش و تجنب الأذى و تنازل مهين عن الكرامة و الحرية. هم يريدون أن يقضوا على الفساد أيضاً، و لكن ليس عندهم مانع أن يتم القضاء عليه في عدة عقود أخرى، و يرون أن هذا ممكن التحقيق، و أختلف معهم في الرأي و أظن أن الفساد لو لم يجتث من جذوره فسيعود كمان كان و أشد.

النوع الثالث هو النوع اللاوطني. هذا النوع الذي يظن أن الدين وطن و أن المسلم في أي مكان في العالم هو أخوه في الوطن ( الذي هو الدين). هذا النوع لا يكترث لمصر و لا لأي بقعة أخرى على أرض الله، و لكنه يوالي الدين و الدين وحده. هذا النوع لا يهتم كثيراً بالحرية و لا بالكرامة الإنسانية كما خرج الثوار يطالبون بها، طالما شرع الله يطبق في الأرض. هذا النوع يهتم بالقضية الفلسطينية أكثر مما يهتم بالتعليم أو الصحة أو قضية الفقر في مصر. هذا النوع يريد بكل حماسة أن يقهر اليهود الصهاينة أولاد القردة و الخنازير و لا يفكر في التسليح و لا العتاد و لا التفوق التكنولوجي. هذا النوع هو من يمكن أن يرتد لمصر للخلف عدة قرون بحماقته و تهوره و جهله الأعمى.

النوع الرابع هو المواطن المرعوب. لا يمكن الحكم على مدى الشعور بالوطنية بين أفراد هذا النوع، لأنهم متباينون. منهم من هو مرعوب بسبب فقد سلطة أو جاه أو فائدة مادية أو معنوية كانت تعود عليه في العهد البائد، و هذا لا يختلف كثيراً عن المواطن اللاوطني، و منهم من هو مرعوب بسبب الأخبار التي تهطل هطول السيول من وسائل الإعلام و مفادها أن مصر ستجوع و الاقتصاد سينهار و إسرائيل ستغزونا، و هذا نموذج متطرف للمواطن الخنوع الناتج عن عقود من القهر، و منهم من يرى النوع اللاوطني فيرتعب من فكرة أن يسيطروا على مصر و يتولوا مقاليد الحكم، و هذا يحب مصر أيضاً و إلا لما إرتعب من فكرة أن يسيطر عليها اللاوطنيون. و جميعهم يتفقون في عدم رضائهم عن الثورة و نقمتهم عليها و على الثوار و تمنيهم لعودة المخلوع و أيامه.

و هناك طبعاً البعض من المرضى الذين لا يندرجون تحت أي تصنيف، و من أمثالهم المطرب العبقري عمرو مصطفى. لا يستحقون أكثر من هذا حديثاً.

في المسألة الإصلاحية:

أدركت أن الكثير من الهدم قد تم و القليل من البناء حل محله. أسقطنا نظام حكم (أو ربما لا نزال نحاول إسقاطه) و لم نبن مكانه شيئاً. أبطلنا دستوراً كان جيداً في الكثير من نصوصه ثم أحيينا مسخاً منه سميناه الإعلان الدستوري، و في الحالتين لم نعمل و لا نعمل بنص الدستور. أزحنا ديكتاتوراً واحداً و أتينا بمجلس منهم. أسقطنا شرطة فاسدة و تركنا الشارع بدون من يحميه. أسقطنا قيوداً و لم نبن شعباً و لا أخلاقاً.

غير أن الصورة ليست قاتمة تماماً. كانت هناك محاولات للإصلاح و التعاون على الخير. أعرف من أصدقائي من ضحوا بيوم إجازتهم الأسبوعية و تبرعوا للعمل مجاناً لتطبيب المرضى من الفقراء. أعرف منهم من جمع الهدايا و الأموال و تبرع بها في أبهى صورة للأطفال المرضى المحتاجين للتعاطف و إدخال البسمة على قلوبهم. أسأل الله أن يكثر من أمثالهم و يبارك في عملهم و يجعلهم قدوة حسنة للآخرين و بذرة طيبة لشجرة عظيمة تنبت في أرض مصر إن شاء الله.

و أنا في النصف الآخر من الكرة الأرضية لا أملك أن أفعل الكثير للأسف. أحاول قدر استطاعتي أن أغير أفكار العهد البائد في عقول الناس، و ربما نجحت أحياناً و حتماً فشلت كثيراً، و لكنني أحاول و سأظل أحاول، و أسأل الله أن يلهمني الصواب و أن يرشدني لما أستطيع أن أفيد به وطني الحبيب.

في المسألة العربية:

لم أكن أبداً أتصور أن تقوم هذه الثورات في المنطقة العربية الواحدة تلو الأخرى هكذا و أن تكلل بالنجاح في إزالة تلك الأنظمة القمعية. من بعد تونس و مصر و ليبيا، أتوقع اليمن و سورية و أرجو من الله أن يلحق بالجميع دول الخليج العربي و عمان و الأردن، و أن يستتب الأمر في لبنان و العراق. أرجو من الله أيضاً و هو القادر على كل شيء أن تستطيع شعوب هذه الدولة بناء دول متقدمة حديثة تعتمد على العلم و المنطق و رجاحة العقل و تكفل لجميع مواطنيها المساواة التامة أمام القانون و الحرية و الكرامة. و أظن لو حقق الله أماني فسنرى عهداً جديداً تتضامن فيه هذه الدول و تتعاون على تحقيق الخير لأبناء المنطقة. فلندع معاً أن يحقق الله أحلامنا الوردية.

في المسألة المهجرية:

أبناؤك يا مصر كثيرون بالخارج، و هم مشتاقون أن يعودوا إليك لأنهم عاشقون لتراب أرضك. خرجوا منك ربما مضطرين بحثاً عن حياة أكرم أو عن حرية أو هرباً من اضطهاد، و سيعودون إذا رأوا فيك ما قد هاجروا من أجله. أبناؤك يا مصر في الخارج يحبونك ربما أكثر من أبنائك في الداخل، و هم ليسوا أقل وطنية و لا حباً لك ممن يمشون على ترابك.

المصريون في الخارج يستحقون أن يتساووا مع أقرانهم في مصر في حق الانتخاب، كي يشعروا أن مصر أمهم لم تلفظهم و لم تتبرأ منهم. نسعى لنيل حقوقنا كما نسعى لكي ينال كل مصري حقه الذي سلب منه سنين طويلة، فساعدونا كي ننال حقنا كما نساعدكم كي تنالوا حقوقكم و لا تنكروا على أخوتكم و أخواتكم أن يسمع صوتهم.

في المسألة الملوخية:

الملوخية في المهجر، حتى و إن كان طعمها لذيذاً، فهي لا ترقى لمستوى الملوخية المصرية الأصلية.

أستأذنكم لأنني أشعر بالجوع، لا للملوخية و لكن لمصر التي نحلم بها تجمعنا معاً تحت سمائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التسميات

٢٥ يناير (29) آدم (1) اخوان مسلمين (15) استشهاد (1) إسلام (26) الأنبا بيشوي (1) الأنبا تاوضروس (1) البابا شنودة (3) البرادعي (2) إلحاد (1) الداخلية (5) الفريق أحمد شفيق (6) الفريق سامي عنان (1) الم (2) المجلس العسكري (14) انتخابات الرئاسة (9) ايمان البحر درويش (1) برلمان (7) بلطجي (7) بولس رمزي (1) بيرم التونسي (1) تعريص (4) تمييز (2) توضيح (35) توفيق عكاشة (2) ثورة (33) ثيؤقراطية (6) جزمة (2) حازم شومان (2) حازم صلاح أبو إسماعيل (2) حب (4) حجاب (1) حرية (18) حزن (3) حواء (1) خواطر (33) خيانة (5) دستور (4) ديمقراطية (13) دين (37) زجل (3) سلفيين (15) سياسة (23) سيد درويش (1) شائعات (3) شرح (25) شرطة (5) شرع (7) شريعة (7) شهيد (5) صور (3) طنطاوي (7) عبد الفتاح السيسي (1) عبد المنعم الشحات (2) عتاب (1) عصام شرف (1) عصمت زقلمة (1) عقيدة (16) علمانية (13) عنف (7) عيد الميلاد (1) غزل (3) غناء (1) فلسفة (1) فوتوشوب (1) فوضى (3) قباحة (8) قبط (21) قصة (3) كنيسة (17) ماريز تادرس (1) مبارك (2) مجلس شعب (7) مرسي العياط (3) مرشد (5) مسيحية (28) مصر (51) معارضة (7) منطق (11) مواطنة (20) موريس صادق (1) نجيب جبرائيل (1) نفاق (1) نقد (36) وحي (1)