أجلس الآن بعد انتصاف الليل أكتب هذا و أنا لا أدري ماذا يحدث في مصر ، و لا أعلم أي شيء عن أهلي و أصدقائي ، و كنت باكراً أتطلع إلى شاشة التلفزيون و أتابع الأخبار كالغريب ، كمن ليس له في الأمر ناقة أو بعير ، و يتابع الآخرون من حولي فمنهم من يهتم بما يحدث لأنه قد يؤثر على السياسة الدولية و من يهتم لأنه حدث شيق كأفلام الإثارة و "الأكشن" و منهم من يشيح بوجهه عن مشاهد العنف متأذياً و من لا يعير الأمر إهتماماً على الإطلاق ، بينما أنا في وسطهم أود لو أستطيع أن أقفز من خلال الشاشة فأهبط حيث أهلي و بنو وطني أشاركهم همهم و أذود عنهم كما يذودون عن بعضهم البعض ، و أهتف باسم مصر مزهواً بأبنائها و بها و بالعزة التي يشعر بها الآن كل مصري ، فلا أستطيع أن أصل إليهم من خلال التلفزيون و أكتفي رغماً عني أن أردد عبارات لا يفهمها من حولي ، و إن كانوا قد يكونون قد فهموا مغزاها من ملامح وجهي و لغة جسدي ، عبارات مثل "ربنا معكم يا رجالة" و مثل "أيوه كده ... أوعوا تسكتوا لهم" و مثل "ربنا ياخدك يا بعيد و يريحنا منك" ، و أكاد أبكي أحياناً أو أرقص طرباً أحياناً أخرى و تخالطني مشاعر متباينة
أجلس الآن أكتب هذا و قد عقدت العزم على أن اذهب غداً إلى مدينة تورونتو حيث نظم بعد الإخوة مسيرة لتأييد أبناء وطننا في أهم ميدان في المدينة ، و قد اشتريت علماً لمصر و آخر لكندا ، و قد كنت أفكر منذ زمان طويل أن أشتري علم مصر و أضعه في منزلي لكي أعرف أولادي بعالم بلدهم الأصلية ، غير أن مشاغل الحياة ألهتني ، و بمنتهى الصراحة كنت لا أملك ما أقوله لهم عن مصر سوى تاريخها الذي لا يشفع لها و لا يغفر لها قبح حضرها ، غير أنني اليوم أحسست أنني أملك الكثير و الكثير لأقوله لهم ، و أحسست بالفخر أن أكون مصرياً ، و أمسكت بالعلم و بسطته و تأملته ثم التحفت به و نظرت لنفسي في المرآة و ملأني الفخر به ، و كادت دمعة أن تفر من عيني شوقاً إلى وطني الذي خرجت منه بحثاً عن حياة أفضل تاركاً خلفي الكثيرين
لا أعلم ماذا سأفعل غداً و لا ماذا سيكون هتافي ، غير أني أعلم أنني سأعود بعد المسيرة أو المظاهرة -- سمها كما تريد -- سأعود إلى بيتي و زوجتي و أبنائي آمن عليهم و على حياتي و مستقبلي ، و تفكرت في أمر هؤلاء الذين خرجوا في المظاهرات في مصر فضربوا و أهينوا و اعتقلوا و منهم من أصيب بعاهة مستديمة و منهم من لفظ أنفاسه شهيداً لكفاحه من أجل الحرية و الكرامة ، و تفكرت في أمر هؤلاء الذين من قبلهم الذين عذبهم النظام الحاكم و كلابه المسعورة و الذين لا يعلم عنهم أهلوهم شيئاً منذ أن أخذوا منهم عنوة ، و الذين قد يكونون قتلوا و لا نعلم عنهم شيئاً سوى أنهم كانوا -- من وجهة نظر النظام -- يشكلون خطراً على النظام . ماذا ستكون مشاركتي غداً بجانب هؤلاء ؟ إن مشاركتي غداً تتضاءل حتى تكاد أن تختفي في ظل تضحيات العشرات و المئات الذين قادونا لهذه اللحظة . اشرك و أنا آمن على نفسي و أهلي و قد شاركوا و يشاركون و هم لا يعلمون هل سيعودون لذويهم أم لا . حملوا أرواحهم على أكفهم فيجب علينا أن ننحني لهم إحتراماً و إجلالاً و تقديراً .
يعتصر قلبي الحزن على من ماتوا و القلق على من لم يموتوا ، و لا يزال الطاغية قاطعاً كل وسائل الاتصال بيننا ، و لا أملك الآن إلا الدعاء لهم بالسلامة و أن يوفقهم الله فلا يضيع دم الشهداء هدراً ، و لا أملك إلا أن أهمس لهم من الجهة الأخرى من الكرة الأرضية "و حياة عينكم خلوا بالكم من نفسكم" و أصارع دمعة تكاد تغلبني و تفر من عيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق