الثلاثاء، 10 يوليو 2012

ما يبقى ع المداود إلا شر البقر‎

بالأمس القريب كنت أشاهد فيلماً وثاقياً على قناة Discovery عن كيفية نشوء الأنواع الأليفة و المستأنسة من الحيوانات من أصولها البرية المتوحشة، فالأساس في الكائنات أنها مخلوقة للحياة البرية و ليس للتربية في المنازل أو المزارع، فمن أين إذاً جاءت الكلاب و القطط الأليفة و حيوانات المزارع بأنواعها؟ لا بد أن الإنسان وجد طريقة ما للتخلص من وحشية هذه الكائنات لتعيش في المجتمعات البشرية. ماذا حدث مكن الإنسان من ذلك؟

المعروف أن الحيوانات البرية تزيد فيها غريزة الخوف عن غريزة الفضول، و الخوف هو الذي يمكن الحيوانات البرية من البقاء و تجنب الأعداء الطبيعيين، كما أن تغلب الخوف على الفضول في تلك الحيوانات يحميها من الوقوع في الفخاخ التي قد ينصبها لها المفترس، و أن الحيوانات البرية فيها شراسة و عدوانية تكاد تكون غير موجودة في الحيوانات المستأنسة، و هي تستخدم تلك الشراسة في الدفاع عن أنفسها في الحياة البرية، و نتيجة لكل هذه العوامل مجتمعة فإن اقتراب تلك الحيوانات من البشر أمر نادر نتيجة الخوف الذي قد يكون متبادلاً في أحيان كثيرة.

غير أن أفراد النوع الواحد لا تتساوى جميعها في السلوك، فهناك تفاوت حتمي بين الأفراد المختلفين في درجة الخوف و الفضول و الشراسة و باقي السلوكيات، و من المعقول أن تكون الأفراد الأكثر فضولاً و الأقل خوفاً و شراسة قد اقتربت أكثر من غيرها من التجمعات البشرية البدائية، ربما بحثاً عن الطعام السهل المتمثل في بقايا طعام البشر، و بدأت تنشأ علاقة تعاونية تلقائية بين الإنسان و الذئاب التي ارتبطت بالتجمعات البشرية، فالذئاب تجد طعاماً سهلاً متوفراً بصورة شبه مستديمة، و في الوقت ذاته قد تحذر البشر من اقتراب حيوانات أكثر ضراوة، و ذلك بحكم حاستي السمع و الشم المتميزتين عندها، كما أن تلك المجتمعات البشرية الأولي قد تجد فائدة في التهام الذئاب لبقايا الطعام التي لا يستهلكها البشر و لا يستخدمونها، ففي ذلك تخلص سهل و نظيف من هذه البقايا.

و بينما تجنبت الذئاب الأكثر شراسة القرب من التجمعات البشرية، استمرت الذئاب الأقل شراسة (أو الكلاب الأولى) في التنقل مع المجتمعات البشرية، و مما لا شك فيه أن أي فرد من هذه الحيوانات أظهر شراسة يخشى منها الإنسان على نفسه قد قتله الإنسان تاركاً الأفراد الأقل شراسة، و بمرور الوقت ازداد تقارب الإنسان مع هذه الكلاب الأولى حتى صارت تعيش وسط المجتمعات البشرية و تعتمد بشكل كبير على البشر في الحصول على طعامها. و هذا التناسل الانتقائي (Selective Breeding) هو السبب في انفصال النوع الواحد من الكائنات (كالذئاب) إلى مجموعتين مختلفتين (الذئاب و الكلاب) في التركيب الجيني الذي يحدد بدوره سلوك الكائن، و كان هناك نوعان من هذا الانتقاء: نوع حدث بفعل الطبيعة، حيث لائمت ظروف المعيشة بجوار التجمعات البشرية بعض أفراد الحيوانات ذات السلوك المختلف عن مثيلتها البرية المتوحشة، و نوع آخر أحدثه الإنسان بانتقائه الأفراد الأكثر وداعة من تلك الحيوانات و تربيتها و التخلص من الأفراد الشرسة. و من هنا نشأت الحيوانات الأليفة.

و في تجربة معملية تم اصطياد مجموعة عشوائية من الفئران البرية و تصنيفها حسب السلوك إلى مجموعة تتميز بسلوك عدواني شرس و أخرى تقل فيها العدوانية و الشراسة، و فصلت المجموعتان بحيث لا تتناسل مجموعة منهما مع الأخرى، و مع كل جيل جديد من الفئران كان هذا الانتقاء يعاد مرة أخرى، فتترك أكثر الفئران عدوانية و شراسة في مجموعة و أكثرها وداعة و ألفة في مجموعة أخرى، و بعد مرور عشرة أجيال أو أكثر كان الفرق في سلوك أفراد المجموعتين واضحاً كالشمس، فأفراد أحدهما صارت في منتهى الألفة كالحيوانات التي يربيها البشر الآن في المنازل و صارت أفراد المجموعة الأخرى شديدة العدوانية و بعيدة كل البعد عن الاستئناس. و في تجربة أخرى مماثلة استخدم فيها الثعالب البرية ظهرت نفس النتائج، حتى أن بعض أفراد الثعالب المستأنسة تلك قد بيعت كحيوانات أليفة تقتنى في المنازل!

و هكذا نلاحظ أن كل الحيوانات الأليفة و المستأنسة لها مقابل وحشي في الحياة البرية، سواء كانت هذه الحيوانات كلاب أم قطط أم خيول أم حمير أم بقر أم جواميس أم خنازير أم دجاج! نعم، هناك مقابل بري للدجاج، و هو طائر (Red Junglefowl) موطنه الأصلي جنوب شرق آسيا و منه نشأت كل فصائل الدجاج المعروفة و التي تعتبر من أهم مصادر الطعام في وقتنا الحالي. و يرجح العلماء أنه لولا ظاهرة التناسل الانتقائي هذه لما كانت البشرية وصلت لهذا التقدم الذي حققته، إذ أن هذه الظاهرة طوعت للإنسان حيوانات عديدة سواء للعمل و الركوب أو للطعام.

و على غرار ما حدث مع تلك الكائنات يقترح بعض العلماء أن الجنس البشري حدثت فيه ظاهرة 'الاستئناس' هذه أيضاً، فتجمع البشر ذوي العدوانية الأقل و الخوف الأقل و الفضول الأكثر في تجمعات بشرية كبيرة مكنت الإنسان من التعاون و تحقيق التقدم و الازدهار، بينما ظل هؤلاء ذوي العدوانية و الخوف في تجمعات صغيرة 'برية'--إن جاز القول--ما لبثت أن انقرضت.

و وجدتني أفكر في مصر التي تعاني من نزيف مستمر للعقول المتميزة و السلوكيات المتحضرة متمثلاً في حركة مستمرة من الهجرة بدأت من ستينات القرن الماضي و شهدت قفزة كبيرة في الفترة الأخيرة، و أستطيع القول بأنه قد مرت أجيال ثلاثة من البشر على بداية هذا 'الانتقاء'، و بتقدير العلماء فإن نتائج هذه العملية تظهر بوضوح بعد عشرة أجيال، و وجدتني أتذكر مثلاً شعبياً قديماً كان جدي رحمه الله يقوله و هو "ما يبقى ع المداود إلا شر البقر"، و 'المداود' في اللغة العامية هي ما يوضع فيها الطعام لحيوانات المزارع (و الأصل مزاود من مزود و هو اسم مكان من الزاد) أي أن البقر السمين الممتلئ يذبح للحمه و لا يتبقى إلا البقر الهزيل على المزاود انتظاراً لتسمينه، و هو نوع مختلف من الانتقاء، فهل يستمر نزيف العقول و السلوكيات المحمودة من مصر لأجيال أخرى حتى تفقد مصر ركيزة أساسية من ركائز التقدم، ألا و هي الثروة البشرية؟ هل تحدث حالة من التناسل الانتقائي بسبب هذا النزيف ينتج عنها أجيال ضعيفة العقل همجية السلوك؟ الأمر بالطبع أكثر تعقيداً في الجنس البشري من التجارب المعملية على الحيوانات، و لكن المبادئ و النظريات تصلح للتطبيق على الإنسان بصفته على قمة هرم التطور الحيواني.

و ليست العقول و السلوكيات فقط هي الخاضعة لهذا التأثير، فالقناعات و العادات الاجتماعية أيضاً قد تخضع له، و قد رأينا تأثير المد الوهابي على المجتمع المصري في العقود الثلاثة الأخيرة، و رأينا تأثيره على المجتمع الأفغاني، و رأينا تأثير السلطة الفاشية الدينية على المجتمع الإيراني، و كل هذه المجتمعات هي مجتمعات طاردة لمن لا تتلائم قناعاته و لا عاداته معها، فيتحول المجتمع تدريجياً من خليط متزن بين اليمين و اليسار إلى مجتمع يسيطر عليه غالباً الفكر اليميني المتطرف الذي يتخذ المنهج الأبوي السلطوي في التعامل مع المجتمع. و النتيجة هي التناسل الانتقائي للفكر اليميني المتطرف في المجتمع.

فهل من ينقذ مصر من هذا النزيف الانتقائي و التناسل الانتقائي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التسميات

٢٥ يناير (29) آدم (1) اخوان مسلمين (15) استشهاد (1) إسلام (26) الأنبا بيشوي (1) الأنبا تاوضروس (1) البابا شنودة (3) البرادعي (2) إلحاد (1) الداخلية (5) الفريق أحمد شفيق (6) الفريق سامي عنان (1) الم (2) المجلس العسكري (14) انتخابات الرئاسة (9) ايمان البحر درويش (1) برلمان (7) بلطجي (7) بولس رمزي (1) بيرم التونسي (1) تعريص (4) تمييز (2) توضيح (35) توفيق عكاشة (2) ثورة (33) ثيؤقراطية (6) جزمة (2) حازم شومان (2) حازم صلاح أبو إسماعيل (2) حب (4) حجاب (1) حرية (18) حزن (3) حواء (1) خواطر (33) خيانة (5) دستور (4) ديمقراطية (13) دين (37) زجل (3) سلفيين (15) سياسة (23) سيد درويش (1) شائعات (3) شرح (25) شرطة (5) شرع (7) شريعة (7) شهيد (5) صور (3) طنطاوي (7) عبد الفتاح السيسي (1) عبد المنعم الشحات (2) عتاب (1) عصام شرف (1) عصمت زقلمة (1) عقيدة (16) علمانية (13) عنف (7) عيد الميلاد (1) غزل (3) غناء (1) فلسفة (1) فوتوشوب (1) فوضى (3) قباحة (8) قبط (21) قصة (3) كنيسة (17) ماريز تادرس (1) مبارك (2) مجلس شعب (7) مرسي العياط (3) مرشد (5) مسيحية (28) مصر (51) معارضة (7) منطق (11) مواطنة (20) موريس صادق (1) نجيب جبرائيل (1) نفاق (1) نقد (36) وحي (1)