بعد أن تكلمت عن الدلائل العقلانية على وجود الله، و وصفت صفاته بإيجاز، أتكلم عن كمال صفات الله كما أراها بعقلي و قلبي على حد سواء. الله مطلق الكمال في صفاته، بمعنى أن صفات الله لا تحدها حدود، و لا يشوبها نقص من أي نوع. و ربما يكون أبرز حدود البشر الزمان و المكان، فالإنسان لا يمكن أن يتواجد في أكثر من مكان واحد و معرفته و وجوده مشروطان بمرور الزمن، و لحياته على الأرض بداية و نهاية، و قدرته على الفهم و الاستيعاب محدودة و إن كانت تتفاوت من إنسان لآخر.
وجود الله لا يحده مكان و لا زمان. الله موجود منذ الأزل و باقٍ إلى الأبد، و هو مصدر الوجود (أي الخالق) للكون و ما فيه. و في حين أنه من السهل على الجميع تقبل أن وجود الله لا يحده زمان، فإن الكثيرين يقفون في حيرة عند إمعان التفكير في حدود المكان. إن سلمنا بأن الله موجود في كل مكان في الكون المدرك حسياً و غير المدرك على حد سواء، فذلك يعني أن الله موجود في كل واحد من البشر، و في كل الحيوانات و المزروعات و الجماد على اختلاف أنواعهم. و الله أيضاً موجود فيما نعتبره نجساً أو غير نظيف، فلا يخلو منه البراز و لا البول و لا دم الحيض و لا القمامة و لا الجيفة! و إن خلا منه مكان أياً كان، حتى و لو كانت هذه 'النجاسات'، فذلك يتنافى مع الكمال المطلق لوجود الله اللانهائي و ينفيه. فكيف لله جل شأنه إذاً أن يتواجد في النجاسة؟ إنما الله هو مصدر القداسة و الطهر، و هو كلي القداسة و الطهر، و وجود الله فيما نعتبره نجساً من المحدودات لا ينتقص من كمال قداسة و طهر الله، فأي شيء يطرح من اللانهاية يتركها لانهاية كما هي لم تتأثر. ثم من خلق تلك النجاسات التي نأنف منها؟ أليس هو الله ذاته؟ فكيف يخلق الله ما يأنف أن يتواجد فيه؟
وجود الله مطلق الكمال، لا يحده زمان و لا مكان و لا يحده ما نعتبره نجاسة أو رجساً.
و لأن وجود الله مطلق الكمال، و لأن الله لا يموت كالبشر و لا نهاية لوجوده، و لأن الله له حياة في ذاته، فإن الله لا يحتاج لما يبقي على وجوده أو حياته كالمخلوقات، فهو لا يحتاج أن يأكل أو يشرب أو يرتاح أو ينام، و ليست له احتياجات الجسد و الغرائز الأساسية اللازمة لبقاء النوع مثل كل المخلوقات، فهو لا يحتاج لبيت يسكن فيه، إذ أن كل الكون في جزء من وجود الله، و لا للباس يلبسه ليقيه من حرارة الشمس و برد الشتاء، و لا يحتاج للتزاوج أو التناسل، فالكائنات تفعل ذلك لحفظ النوع و البقاء، و الله باقٍ بذاته لا يموت. بتعبير قصير، ليس كمثل الله اللانهائي شيء من المخلوقات المحدودة.
و وجود الله (the existence of God) يختلف عن حضرة الله (the presence of God). نحن نستحضر الله في الصلاة و الدعاء و في بيوت الله المخصصة للعبادة، فتكون لهذه الأوقات و الأماكن مهابة خاصة و إجلال متميز إذ أننا نكون في حضرة الله. و في رأيي فإن حضرة الله هي شعور الإنسان بالوقوف أمام الله، فهي خاصة بالإنسان و ليس بالله، و تصف شعور الإنسان و ليس وجود الله. الله موجود في غير أوقات الصلاة و في خارج بيوت العبادة، و لا يشعر الإنسان العادي بحضرة الله حينئذ أو أينئذ. و وجود الله في كل مكان لا ينفي أن يجعل الله لأماكن معينة قدسية أكثر من غيرها، فالله حالٌّ بقداسته في كل الأماكن و كل الأزمنة، و قداسته لا تُنتَقَص في أي مكان أو زمان دوناً عن الآخر، و لكنه يشاء أن تكون لأماكن ما و أوقات ما قدسية تفوق الأخرى عند البشر لأن الإنسان المحدود لا يستطيع استيعاب اللانهائي و يلزمه أن يكون هناك مكان محدود أو زمان محدود يشعر فيه بقدسية الله و حضرته، و يصير الفارق في قدسية المكان و الزمان فارقاً عند البشر و ليس اختلافاً في درجة قدسية الله؛ تماماً كالفرق بين وجود الله و حضرة الله. الله مطلق الكمال، و عليه فلا نسبية في صفات الله و لا تفاوت أو اختلاف، إنما النسبية و التفاوت تخص البشر المحدودين، فلا يجب أن نخلط بين ما يصفنا و بين ما يصف الله.
لا نسبية في صفات الله، فالله لا تزيد حكمته عن قدرته و لا عدله عن وجوده. كلها لانهائية. و لا تعارض بين صفات الله و لا تضارب. لا يمكن أن يعارض عدل الله محبته مثلاً، و لا أن تعارض قدرة الله عدله. التعارض نقيصة و الله خالٍ من النقائص.
و عِلم الله مطلق أيضاً. الله يعرف كل شيء حدث أو سيحدث على مر الأزمان، و يعرف كل شيء يحدث في كل الأماكن. الله خارج حدود خط الزمن. الزمن يتحرك للأمام فقط أو يتوقف كلية طبقاً لقوانين الطبيعة، لكن علم الله كائن قبل أن يكون الزمن و بعد نهاية الزمن. بالنسبة لنا نحن البشر فإن الزمن يختلف باختلاف السرعة، و ذلك لأننا محدودون بالمكان، فيمكن أن تكون لنا سرعات مختلفة، لكن عند الله الزمن لا يختلف لأن كل السرعات و كل الأماكن هي في وجود الله. و لقد أثارت فكرة كمال علم الله جدلاً حول كون الإنسان مخيراً أم مسيراً و جدلاً آخر حول وجود الله ذاته، و لكن لهذا مقال آخر. و علم الله المطلق يستوجب أن تكون وعود الله ثابتة لا تتغير، فكل ما نعتبره وعداً من الله قد وعده الله بسابق علمه لكل ما يترتب عليه، و قول الله حق مطلق (absolute truth)؛ حق بمعنى أنه لا كذب فيه و حق بمعنى أنه سيتحقق حتماً إن لم يكن قد تحقق. نحن كبشر نتكلم من واقع علمنا المحدود فنخطئ و نصيب و نفي أو نحنث، لكن الله بمطلق علمه ليس كمثلنا. كلمة الله ثابتة لا تتغير أبداً.
و حب الله مطلق أيضاً. الله لا كره فيه و لا شر من أي نوع، و الله يحب خليقته التي صنعها، فهو لم يخلقها ليكرهها. و ذلك أيضاً تبعية منطقية لعدل الله المطلق. إن كان الله قد خلق مخلوقاً مع علمه أنه سيكرهه (بفرض وجود الكره في صفات الله) أفلا يكون ذلك المخلوق قد ظُلِم من قِبَل الله، إذ لم يكن له يد في خلقته و لا في كره الله له؟ حاشا لله أن يكون ظالماً. الكره هو البعد عن محبة الله، و الشر هو البعد عن قداسة الله، كما أن الظلام هو البعد عن النور و البرد هو البعد عن الحرارة. الله يرزق الصالح و الطالح، و يشرق بالشمس على البار و الفاسق، و يمطر بالماء مصدر الحياة على التائب و الخاطئ المتجبر، و يَهِب نسمة الحياة لمن يؤمن به و من ينكر وجوده، فهو يحب الجميع و يريد الخير للجميع.
و من ذات المنطلق، فإن حكمة الله مطلقة أيضاً. حكمة الله تشمل كل الكون بكل ما فيه، بينما حكمة البشر مهما زادت لا تشمل سوى قدر محدود من عالمهم الضيق. كل شيء يحدث في مكان ما من الكون قد يتأثر به شيء آخر، و الأوقع أن نقول أن شيئاً آخر حتماً يتأثر به. للكون طبيعة فوضوية (chaotic)، و في علم الحساب يعني هذا أن تغيراً بسيطاً في المعطيات ينتج عنه تغير كبير في النتائج و تزداد الفروق بشكل أُسِّي (exponentially) بمرور الوقت. يقولون عن مثل هذا النوع من التأثيرات 'تأثير الفراشة' (the butterfly effect)، و يعنُون به أن خفقة جناح فراشة في مكان ما من العالم يسبب تغيراً لا يكاد يُدرَك في الريح، و لكن هذا التغير قد يتضاعف تأثيره بعوامل شتى حتى يسبب إعصاراً في مكان آخر من العالم. فلا تستَهِن بتلك الأحداث الطفيفة التي تحدث في حياتك كل يوم، فهي تؤثر بشكل أو بآخر على الحياة كلها. إذا كانت حكمتك المحدودة لا ترى ما هو أبعد من محيطك المباشر أو الأبعد منه قليلاً، فإن حكمة الله المطلقة التي لا يحدها مكان و لا زمان و لا نقص معرفة تخطط للكون كله من قبل أن يُخلَق الكون. إن حدث في حياتك ما لا تجد له تفسيراً أو ما تظنه شَرّاً أو ضُرّاً، فاعلم أن حكمة الله تقتضي ذلك من أجل ترتيبه للكون كله و اعلم أن عدل الله سيعوضك في هذه الحياة أو الأخرى، و ثق بأن الله إنما يحبك أكثر مما تحب ذاتك.
و قدرة الله مطلقة أيضاً. الله يقدر أن يفعل ما يشاء من دون شرط أو قيد. و الفارق بين الله و بين بني البشر أن القدرة الزائدة قد تجعل من الإنسان متسلطاً جباراً و تنسيه العدل و الحق و المحبة، أما الله فكل شيء فيه مطلق، و قدرته لا تغير من باقي صفاته. و تمام القدرة و كمالها لازم لصفات الله، فمن دون قدرة مطلقة قد لا يستطيع الإله أن يفعل ما يريد فيصير شيء فيه محدوداً، و قد قلنا إن الله هو اللانهائي و غير المحدود. و بالرغم من قدرة الله المطلقة إلا أن الله لا يغفر الذنوب بغير توبة، و إلا انتفى عدل الله، و لا ينقذ من الجحيم دون أن يفعل الإنسان شيئاً على وجه الإطلاق، إذ أن هذا أيضاً يعارض عدل الله بل و يسقط كلام الله باستحقاق العقاب في الحياة الآخرة، و حاشا لكلام الله مطلق الحق أن يسقط. ليس هناك شيء لا يستطيعه الله.
و سمعت البعض يتساءل أحياناً "لِمَ لَمْ يفعل الله هذا أو ذاك و هو القادر على كل شيء؟" و لنعلم جميعاً أن صفات الله لا تُعارض صفة منها أخرى، و إن بدا لنا تَعارض فإن الله في حكمته و علمه غير المحدود سيفعل و هو يعلم أنه سيفعل ما يزيل هذا التعارض البادي؛ فهو تعارض غير موجود عند الله. مشكلة البشر أنهم يقولون إن لله الكمال ثم يحاولون و هم المحدودون أن يستوعبوا حكمة الله أو أن يُقَيِّموا أحداث الحياة و الكون بعلمهم المحدود، و هذا مستحيل، إذ أن المحدود لا يستوعب اللانهائي، فإما أن ينكر القائل وجود الله و إما أن يُسَِّلم بحكمة الله و يثق في عدله و محبته، و بالنسبة لي فإن إنكار وجود الله غير منطقي، فلا يبقى إلا أن يثق الإنسان في حكمة الله و عدله.
و عقل الله صفة لازمة للألوهية. العقل هو مصدر المنطق، و هو أداة الفهم و إدراك النظام و الأنماط و الاستدلال على ما هو غير مدرك حسياً، و نعلم كبشر أن العقل أهم ما يميزنا عن بقية الكائنات المعروفة، فالعقل هو سبب سمو جنس البشر عن باقي المخلوقات، و العقل هو الذي يجعلنا ننطق بأنماط معينة و نظام معين فنعبر عن أفكارنا بالكلام و نتميز عن بقية المخلوقات بالنطق الذي هو وسيلة غاية في التعقيد من وسائل التواصل بين المخلوقات. و كلمة لوجوس (logos) في اليونانية (λογος) تعني "كلمة" و تعني أيضاً "استدلال" و منها اشتقت كلمة المنطق في لغات غربية عديدة و تعني لوجيك (logic)، فالكلام يعبر عن الاستدلال بالمنطق و يدل على العقل. فإذا كنا و نحن المحدودون نباهي بعقلنا الكون كله، فكم بالحري اللانهائي خالق ذلك الكون الفسيح؟ و إذا كنا و نحن المحدودون نباهي بنطقنا كل المخلوقات، فكم بالحري الذي وهبنا النطق؟ و عقل الله لانهائي ككل صفاته، فهو واضع نظام الكون كله بما فيه من خفايا عديدة لا زلنا نحاول سبر أغوارها، و بعقله اللانهائي و علمه اللانهائي خلق كل ذاك الكون المدرك الذي لا يتعارض فيه نظام مع آخر على الرغم من تعقيده الشديد و هو مستمر في الوجود منذ ملايين السنين دون أن تتعطل أنظمته.
و أخيراً أقول إنني لن أستطيع أن أعدد صفات الله كلها أو أن أصفها بكلمات توفيها حقها، و ذلك لأنني أدرك أني محدود و عقلي محدود و علمي محدود و الكلام وسيلتي في التعبير محدود، و الله لانهائي لا تحده حدود. لكنني أقدر أن أضع خطوطاً رئيسية لمن أراد التفكير في صفات الله و اتفق معي في المنطق، فالله لانهائي من كل وجه، و صفاته متسقة متناسقة لا تعارض بينها، و الله خالٍ سبحانه من الشر و النقائص، بل يمكن أن نقول إن ما نعتبره شراً هو بعدنا عن الله بالقلب و العقل.
انتهى كلامي عن صفات الله و يلي بعونه المزيد من الكلام عنه و مقاصده حسبما يراها عقلي المحدود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق