يذكر إنجيل معلمنا متى في إصحاحه الأول بداية قصة الميلاد و الحبل العذري لسيدتنا العذراء مريم، فيقول:
{أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً:«يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ».} مت ١ : ١٨- ٢١
أي رجل عادي في مكان يوسف النجار كان رد فعله للحبل العذري سيكون الغضب لكرامته و التشهير بخطيبته و تقديمها للحكم، و كان الحكم في شرع اليهود واحداً و هو القتل:
{وَإِذَا زَنَى رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ، فَإِذَا زَنَى مَعَ امْرَأَةِ قَرِيبِهِ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ.} لا ٢٠ : ١٠
إذ أنه لم يعرف قط أن حبلت إمرأة دون أن تعرف رجلاً معرفة الأزواج. يقول الكتاب أن يوسف كان رجلاً باراً. كان عند يوسف النجار دليل لا يرقى لمستوى الشك في أن سيدتنا العذراء مريم قد تكون وقعت في خطية الزنا، إلا أنه سامحها و "سترها" من أجل أنه إنسان بار، منفذاً قول السيد المسيح قبل أن يراه رؤى العين:
{مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!} يو ٨ : ٧
و من أجل بره كشف الله له عن سر الحبل العذري في رؤيا، فصدق يوسف كلام الله على لسان الملاك.
و بعد مرور ٢٠٠٠ عاماً تقريباً على هذا الحدث، تعرى فتاة في وسط الشارع ظلماً و عدواناً، فنجد من يخرجون علينا قائلين أنها حتماً عاهرة بدليل ما كانت ترتديه، بالرغم من أنها كانت تستر جسدها تماماً، و من يلومون الضحية على تواجدها في مكان الحادث، و من يصفون الحادث البشع بالتمثيلية الهزلية، فما أبعد هؤلاء عن يوسف النجار رجل الله الذي لم يرد أن يشهر بالعذراء رغم أنه كان متأكداً وقتئذ من أنها زانية. شتان الفارق بين من ستر من كان متأكداً أنها زانية و من نهش في عرض الضحية الشريفة و وصفها بالعهر من دول دليل.
ثم لما أخبر الملاك العذراء مريم أن نسيبتها اليصابات حبلى في شيخوختها قامت فزارتها، فلما تقابلتا ارتكض الجنين في بطن اليصابات بابتهاج فقالت للسيدة العذراء:
{مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟} لو ١ : ٤٢-٤٣
فانطلقت السيدة العذراء تسبح تلك التسبحة الشهيرة قائلة:
{تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ، وَرَحْمَتُهُ إِلَى جِيلِ الأَجْيَالِ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ. صَنَعَ قُوَّةً بِذِرَاعِهِ. شَتَّتَ الْمُسْتَكْبِرِينَ بِفِكْرِ قُلُوبِهِمْ. أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ. أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ وَصَرَفَ الأَغْنِيَاءَ فَارِغِينَ.} لو ١ : ٤٦-٥٣
و لم أملك عند قراءة تلك التسبحة إلا أن أعظم مع العذراء الرب الذي شتت المستكبرين و أنزل الأعزاء عن الكراسي و رفع المتضعين، و لم أملك إلا أن ادعو الرب أن يتم علينا ما بدأناه بعونه و أن يشتت المستكبرين بفكرهم الذين يظنون أنهم أعلى من مصر و من الشعب المصري، و أن يرفع المتضعين الذين لا هم لهم إلا مصلحة الوطن و لا يطلبون مالاً و لا جاهاً و لا سلطاناً، يرفعهم فيقودون مصر إلى الخير بإذن الله، و أن يشبع الجياع خيرات، فكم من جياع في مصر يحتاجون إلى الإشباع، و هم ليسوا جياعاً فقط للطعام، و لكنهم جياع للعدالة و المساواة، و جياع للكرامة و العزة و الشعور بالآدمية، و جياع للشعور بالانتماء لوطن يرعونه و يرعاهم و يحمونه و يحميهم.
فلما ولد السيد المسيح جاء مجوس من المشرق يقدمون هدايا "لملك اليهود" الذي رأوا نجمه. يقول الكتاب عن هيرودس ملك اليهودية:
{فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ.} مت ٢ : ٣
و من دون شك فإن من يضع المنصب و الجاه و السلطان نصب عينيه من دون أي شيء آخر يضطرب و ينزعج إذا ظهر من ينافسه على هذا المنصب، و هو يحاول أن يفعل كل ما يمكن ليحتفظ بالمنصب و السلطان، و لا يحكمه في ذلك سوى شهوة السلطان و جشع الدنيا، فالقتل مباح و الدم مستحل في سبيل حماية كرسي السلطان. طلب هيرودس الملك من المجوس أن يتحققوا من مكان "الملك المولود" و يأتوا إليه لكي "يسجد له" هو أيضاً، و بالطبع لم يكن "ينتوي" أن يسجد له على الإطلاق، و انما أراد أن يعرف مكانه ليقتله. و إذ أوحي للمجوس في حلم ألا يعودوا لهيرودس انصرفوا من طريق آخر. فاستشاط هيرودس غضباً و أعماه خوفه على الملك و السلطان عن رؤية أي شيء آخر سوى الكرسي المهدد بالضياع من وليد رضيع عمره أيام، فأرسل جنوده ليقتلوا كل الصبيان في بيت لحم و تخومها من سن سنتين فما دون...! و قد كان.
{حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًّا. فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَب الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ.} مت ٢ : ١٦
و نحسب هؤلاء الأطفال الأطهار أول شهداء على إسم السيد المسيح. تخيلوا معي الحزن الذي عم بيت لحم وقتذاك. تخيلوا آلاف الأطفال الأبرياء الذين قتلوا بلا ذنب سوى أنهم تواجدوا في بيت لحم أو تخومها وقت ميلاد السيد المسيح. تخيلوا الدم الذي سال على أراضي بيت لحم و تخومها، و نواح الأمهات المكلومات. و من أجل ماذا؟ من أجل أن السلطان الجائر يخشى على كرسيه من صبي وليد لم يتجاوز عمره العامين في أكثر تقدير. و تخيلوا الجنود الذين بأيديهم قتلوا أطفالاً رضع اختطفوهم من احضان أمهاتهم. أي جبن و أي خسة تلك؟ و هل هؤلاء هم جنود الجيش الروماني الذين كانت المملكة الرومانية تباهي به العالم؟
و نحن نعيش في هذه الأيام ذكرى إنقضاء قرابة العام على بداية أحداث الثورة، و خوف السلطان الجائر على كرسيه، و جنوده الذين انطلقوا يقتلون الأبرياء، و الدماء البريئة الطاهرة التي سالت على أرض مصر من أجل التشبث بالسلطان. أحسب أن الجنود الذين نفذوا أمر هيرودس بقتل أطفال بيت لحم لا يختلفون كثيراً عن الجنود الذين نفذوا أمر مبارك و حبيب العادلي بقتل ثوار التحرير. لا أعلم إن كانوا قد تجردوا من الإنسانية أم أنهم ينفذون الأوامر و حسب، و لا أعلم أين تقف حدود تنفيذ الأوامر العسكرية. لا أعلم أين ينتهي الجندي و يبدأ الإنسان أو أين ينتهي الإنسان و يبدأ الوحش الكاسر الكامن في كل منا. كل ما أعلمه أن شهداء الثورة على اختلافهم لم يكونوا يستحقون الموت، و أن شهوة السلطان كانت وراء كل ما حدث، و أن ذكرى هؤلاء الشهداء العطرة ستظل في تاريخنا أبد الدهر كما خلدت ذكرى أطفال بيت لحم.
و قبل أن تحدث تلك المذبحة في بيت لحم، ظهر ملاك الله ليوسف في حلم موحياً له أن يهرب بالصبي و أمه إلى أرض مصر.
{وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً:«قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ.} مت ٢ : ١٣-١٤
جاء السيد المسيح و السيدة العذراء و يوسف النجار إلى أرض مصر فتباركت بهم الأرض، و تحقق ما ذكر بالكتاب من نبوة هوشع النبي:
{مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي} هو ١١ : ١
مصر التي تباركت بمجيء السيد المسيح إليها كان لها وضع خاص في الكتاب المقدس. يقول الرب موصياً اليهود:
{لاَ تَكْرَهْ مِصْرِيًّا لأَنَّكَ كُنْتَ نَزِيلاً فِي أَرْضِهِ} تث ٢٣ : ٧
و تقول النبوة في سفر اشعياء النبي:
{فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ، وَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ الرَّبَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ......بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: «مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ»} اش ١٩: ٢١ و ٢٥
الرب وعد مصر بالبركة يوم أن يعرف المصريون الرب. نسأل الرب أن يرشدنا إلى طريقه و يمنحنا هذه البركة و يزيل عنا الغمة و يمنحنا الفرح و السلام الذي انشدت به الملائكة بشارة بمولد السيد المسيح:
{ الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ} لو ٢ : ١٤
فلنصل جميعاً لله الواحد الأحد لكي يمنح مصر السلام و يمنحنا المسرة و يمنح أهالي الشهداء العزاء و السلوان. آمين استجب أيها الرب.